لم تكن الشاعرةُ الأميركية “آن بوير” لتستقيلَ من وظيفتها الثقافية في مجلة “نيويورك تايمز” لولا الضميرُ الحيُّ والانحيازُ إلى القيم والـمُثل الإنسانية العالية، ذلك أنّ مُحرِّرةَ الشِّعر في المجلّة المذكورة أدركتْ تماماً معاني الـمُثقَّفِ العُضويِّ والكاتبِ الـمُلتزمِ الرافِضَينِ جرائمَ الإبادة التي يتعرّضُ لها أطفالُ فلسطين ونساؤُها، خاصّةً في غزّة: “لقد أصبحت قلوبُنا ضيّقةً وثقيلةً بسبب هذه الحرب، لأنها ليستْ حربَ صواريخَ وغَزْوٍ بَرِّيٍّ فحسب، بل إنّها حملةٌ متواصلةٌ ضدَّ شعب فلسطين الذي قاومَ عُقوداً من الاحتلال والتهجير القسريّ والحرمان والترصُّد والـمُراقبة والحصار والسّجن والتعذيب”.
بهذه الكلماتِ الـمُعبِّرة عن إنسانيّةِ الشاعر وأخلاقِ الـمُثقَّفِ الحقيقيّ، ختمَتْ مُحرِّرةُ الشِّعر رسالةَ استقالتها التي قدّمتها بسبب سلوكِ الكيان الصهيونيّ الإجراميّ وعُدوانِهِ المُستمرّ على الشعب الفلسطينيّ، وهي رسالةٌ تُؤكِّدُ مصداقيّةَ الرواية التي قدَّمَها أفرادٌ ومُؤسَّساتٌ إعلاميّة آثرَت الانحيازَ إلى مظلومية الشعب الفلسطينيّ في كربلائيّتِهِ المُمتدَّةِ عُقوداً طويلةً، التي لم ينجح الإعلامُ الغربيُّ المُتَصَهْيِنُ في تشويهها، لكنَّ أولئكَ الذينَ أصابَهُمُ العمى انحازُوا إلى الجلّاد، وآزَرُوهُ في جريمته بحقِّ شعبٍ لم يتخلَّ عن حُقوقِهِ المشرُوعةِ قطُّ، ولن يتخلَّى عنها أبداً.
لم تكنْ “آن بوير” الكاتبةَ الغربيّةَ الوحيدةَ المُستقيلةَ من عملها تضامُناً مع الشعب الفلسطيني ورَفْضاً للجرائم الصهيونية، فزميلتُها الكاتبةُ “جازمين هيوز” استقالتْ من عملها أيضاً بعدَ أنْ وَبَّخَتْها إدارتُها لتوقيعِها رسالةً مفتوحةً تدينُ فيها السلوكَ الصهيونيَّ المُتمثّلَ في الفصل العُنصريّ والإبادة الجماعيّة بحقِّ الشعب الفلسطينيّ، وهي الرسالةُ التي وقّعَ عليها الكاتبُ “جيمي لورين كيليس” قبلَ استقالتِهِ أيضاً.
ولم يَرفُضِ السُّلوكَ الصهيونيَّ تجاهَ الشعب الفلسطينيّ، خاصّةً في غزّة، بعضُ المُثقّفينَ والكُتّابِ وأصحابِ الضمائرِ الحيّةِ فحسب، بل انتقلَ هذا الرفضُ إلى بعض السياسيّين والبرلمانيّين الغربيّين، كما هو حالُ عضو البرلمان الإيرلنديّة “كلير دالي” التي هاجمَتْ بشدّةٍ رئيسةَ المُفوَّضِيّةِ الأوروبيّة “أورسولا فون دير لاين” لموقفِها الداعمِ للكيان الصهيونيّ في قتلِهِ النساءَ والأطفال، داعيةً إيّاها إلى غَسْلِ يديها من دماءِ الأطفال الفلسطينيّين في غزّة بعدَ أنْ أحالَ الاحتلالُ شوارعَها وأبنيتَها أنقاضاً مُمتلئةً بدماءِ الأطفال، وهي الدماءُ التي تعطّرَتْ بها أيدي بعضِ الأمّهات الفلسطينيّات بعدَ أن استُشهِدَ أطفالُهنَّ بينَ أيديهِنّ، فرَفَضْنَ غَسْلَ أيديهنّ ليبقى عطرُها فوّاحاً مِنهُنّ، وهُـنَّ الأمّهاتُ الـمكلومات.
وبينما كانتْ ضمائرُ الأحرار مِنَ المُثقّفينَ الغربيّين تَرفُضُ السُّلوكَ الإجراميَّ الصّهيونيّ رَفْضاً قاطِعاً، كانت الأصواتُ (النّشاز) لبعضِ “المُثقّفين” المُتَصَهْينينَ ترتفعُ مُعلِنةً تضامُنَها معَ القتَلَةِ والمُجرمينَ وانحيازَها إليهم، كما هو حالُ الروائيّ والكاتب المغربيّ الطاهر بنجلون، بل إنّ هذا الكاتبَ المغربيَّ الفرنسيَّ كانَ أكثرَ حِقْداً على الشعب الفلسطينيِّ من غُلاةِ الصهاينة، كما هو واضحٌ في مقاله المنشور في موقع “لوبوان” الفرنسيّ، الموسوم بـ”الـ 7 من أكتوبر، موت القضية الفلسطينية… اغتيالها”، وكانَ الجدير بهذا الكاتب أن يقرأَ بعضَ مواقفِ المُثقّفين الغربيّين، ويتعلّمَ منها كيفَ يستطيعُ الكاتبُ والمُثقَّفُ والأديبُ أن ينحازُوا إلى أصحاب الحقِّ، ويُعلِنُوا رَفْضَهُمْ سُلوكَ المُحتلِّ الإجراميَّ، كما فعلَ نجمُ هوليوود “جون كوزاك” بدعوتِهِ “إلى وقفِ جرائم القتل الشنيعة والإبادة الجماعيّة ضدّ الفلسطينيّين”.
لقد نجحَ الإعلاميُّ المُقاوِمُ والمُقاتِلُ الإنسانيُّ في تعريةِ سُلوكِ المُحتلِّ الصهيونيّ الإجراميّ بعدَ معركةِ طُوفانِ الأقصى، فقد كشفَتْ هذه المعركةُ قُبحَ بعضِ أدعياءِ الثقافة والأدب ودمامَتَهُمْ، كما كشفَتِ الوجْهَ الأكثرَ بشاعةً وحِقداً للساسةِ الصهاينة مِنْ أمثال: “نتنياهو”، و”بني جانتس”، و”داني يانون”، الذين دَعَوا إلى قتلِ المُثقّفين والإعلاميّين الأحرار بحجة تواطُئهم في الجرائم ضدَّ الإنسانية، مُقترِحينَ التعامُلَ معَهم بوصفِهم إرهابيّين ومُلاحقتَهُم أينما كانوا، حتّى القضاءِ عليهم.
لقد أثبتَ العُدوانُ الصهيونيُّ الأخيرُ على غزّة أنّ المُثقَّفَ الحقيقيَّ هو المُثقّفُ الذي يحملُ ضميراً حيّاً وسلوكاً واعياً أيّاً كانت جنسيّته وديانته، كما هو حالُ المُؤرّخِ (الإسرائيليّ) “إيلان بابيه” صاحبِ كتاب “التطهير العرقيّ في فلسطين” الصادر باللغة الإنكليزيّة عام ٢٠٠٦، هذا المُؤرِّخ الذي نذرَ حياتَهُ لِفَضْحِ مُمارساتِ الكيانِ الصهيونيّ الإجراميّة، وفي هذا السِّياق كتبَ إلى موقع “وقائع فلسطين” مقالاً مُهمّاً: “فلسطين كرونيكل” أعلنَ فيه دَعْمَهُ فلسطينَ وشَعْبَها المُناضِلَ لأجلِ البقاء، مُؤكِّداً “أنّ الحكومةَ الإسرائيليّةَ ليسَ في مَقْدُورِها أن تلعبَ دَوْرَ الضحية، ولا سيّما أنّ قطاعاتٍ كبيرةً من المجتمع المدنيّ الغربيّ لا يُمكِنُ خِداعُها بسُهولةٍ بهذا النِّفاقِ الذي تجلّى في المُقارنةِ معَ الحالة الأوكرانيّة”.
كما أنّ العُدوانَ الصهيونيَّ نجحَ في تعريةِ بعضِ أدعياء الثقافةِ العرب والمُسلِمين الذينَ طالما حاوَلُوا سَتْرَ عَمالتِهم وانحيازِهم إلى القتَلَةِ في سبيلِ الحُصولِ على جائزةٍ، أو موقع يُمكّنُهم من تحقيقِ مزيدٍ من الشُّهرةِ والحُضور المُزيَّف على جُثَثِ الشُّهداءِ من النِّساء والأطفال.
المصدر: موقع رأي اليوم
د. محمد الحوراني