ما بعد قمة جدة ليس كما قبلها.. فالوضع العربي خرج من عنق الزجاجة إلى رحاب التلاقي والعمل المشترك، وبدأت الجامعة العربية اجتماعاتها بحضور سورية وما يعني ذلك من عناوين عمل جدية باتجاه المصلحة العربية العليا، وسقطت مخططات عزل سورية عن محيطها العربي بما يُمثل من عزل العرب عن قضاياهم الأساسية، فسورية مثلت على الدوام ضمير الأمة العربية والحارس الأمين لقضية العرب المركزية ونقطة التلاقي في العمل العربي المشترك.
لقد مثل رجوع سورية إلى الجامعة العربية عودة الحياة إلى التفاف العرب حول المبادئ التي قامت عليها مؤسسة الجامعة، فخلال اثني عشر عاماً من غياب سورية عن الجامعة تراجع العمل العربي المشترك، ولم تصدر أي قرارات عربية ذات قيمة بشأن المشكلات التي يعانيها الواقع العربي بل حصل العكس تماماً، فالاهتمام بقضية العرب الأولى قضية فلسطين تراجع كثيراً، وبدأ التآمر على دحرجة هذه القضية إلى أسفل الاهتمامات العربية، ومالت الأمور إلى تصفية هذه القضية تصفية شبه كاملة، كما غابت أي مؤشرات تسهم في توحيد الصف العربي.
وطبعاً كان المستفيد الأول من غياب سورية عن المحيط العربي الكيان الصهيوني الذي حقق خلال فترة قصيرة ما لم يحلم به طوال السنوات الماضية، حيث أقام علاقات مع كيان الاحتلال الإسرائيلي ليعيش هذا الكيان أزهى أيامه، ولذلك كانت الولايات المتحدة الأمريكية والعدو الإسرائيلي أكثر الجهات التي غضبت لعودة سورية إلى الجامعة العربية، ولم تخفِ ذلك بل عبّرت الخارجية الأميركية عن امتعاضها لعودة سورية إلى الجامعة والاشتراك في أعمال الدورة 32 التي عقدت في جدة عبر بيان رسمي صدر عن الخارجية الأميركية وأعلنت عن معارضتها لعودة سورية.
وفي الحقيقة أن قمة جدة شكّلت علامة فارقة في القمم العربية بخروجها عن نطاق الضغوط والتأثير الأميركي الذي كان مهيمناً في القمم السابقة، وجاء هذا الخروج مترافقاً مع المصالحة الإيرانية السعودية برعاية صينية وهذه لأول مرة في تاريخ العلاقات بين أمريكا والمملكة العربية السعودية، وفي ضوء هذا التحول كانت برقيتا التهنئة من موسكو وبكين بعقد القمة بينما لم يصدر عن واشنطن سوى التنديد بقرارات القمة، وهذا يشير إلى أن تحولات قادمة في تشكل عالم جديد متعدد الأقطاب وليس مقتصراً على هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية كقطب واحد أوحد ما يؤشر إلى أن الأمور بدأت تخرج عن السيطرة الأميركية مع تقدم الصين لتكون قطباً دولياً فاعلاً ومؤثراً.