الإعلام تايم -الديار
الياس وارديني، ريتا شامي وهيكل مسلّم الجرح الأكثر إيلاماً مع بزوغ فجر سنة جديدة، فاصطبغت بدماء هؤلاء، بهجوم وحشيّ قام به داعشيّ مجرم، فأخذتنا تلك المجزرة الرهيبة في اسطنبول والتي حصدت ضحايا أبرياء من جنسيات عديدة إلى قول مؤثّر للكاتب الفرنسيّ بيار إيمانويل: "أنا أعرف أنّ الإنسان هو الجرح".
ليس للإنسانيّة على الإطلاق أن تتجاوز تلك المجزرة، وليس لها في الوقت نفسه أن تغفو على وحشيتها مظهرة عجز الدول عن مواجهة تلك التنظيمات المتجهة نحو مزيد من التوحّش والبربريّة، فليس من تماس بين إنسانيّة طهور، تتصاعد نحو النور، وبين مجموعة خلعت عنها الرداء الأبيض لتستوي في الظلام، وتعيث في الأرض فساداً وتقتل وتقتات من لحوم البشر وتسكر من دماء طاهرة مهراقة. هذه منظمات تعيش خارج دائرة الكون، وخارج أيّ نظام، وخارج أيّ دين، فاقتلاعها من جذورها ليس واجباً سياسيّاً وأمنيّاً بل هو واجب أخلاقيّ بامتياز.
ليست تلك المجزرة الأولى في تركيا، فقد قتل السفير الروسيّ أندره كارلوف في معرض للصور، وكان القاتل جزءاً من أنظومة الحماية المؤمّنة للسفير وكان من المجموعة المرافقة لرجب طيب أردوغان، وملهى رينا كلوب في اسطنبول، وعلى ما وصف رواد كثيرون ارتادوه، يمتاز بحماية شديدة على مدخله وفي الداخل، وقد صرّح صاحبه رجل الأعمال محمّد كوشاسلان بأنّ الهجوم لم يكن متوقّعاً، على الرغم من معلومات وردت من الولايات الأميركيّة المتحدة تحذّر من أيّ عمل إرهابيّ قد يطال هذا الملهى أو سواه، فاسطنبول وتركيا بصورة عامّة باتت وبحسب التقارير الأمنية المنشورة بلداً واقعاً تحت سيطرة الإرهاب والإرهابيين.
وتتكلّم المعلومات عن سهولة دخول الإرهابيين أيّ موقع سياحيّاً كان أو له صفة أخرى بسبب انفراط عقد الجيش التركيّ أو فرط رجب طيب أردوغان للجيش والقوى الأمنيّة، وراحت الأسئلة تتدحرج بوضوح حول سبب عدم وجود الحراس تلك الليلة في المقهى، وكيف تسلّل هذا القاتل وراح يقتل الرواد بلا هوادة؟ ويكشف صحافيّ تركيّ يدعى سيردار إينان النقاب عن تلك الواقعة فقال:
"يجب أن يكون الإرهابي رامبو أو سبايدرمان"، ذلك أن ثمّة نقاطًا جوهريّة لا بدّ من الانتباه لها والتي قد تغيّر مسار التحليلات، وهي:
أولاً: عندما يرتاد أحد الأشخاص ملهى "لا رينا"، يصادفه في الخارج 10 حراس أمن، كلّ واحد منهم يبلغ طوله مترين. إضافةً الى حواجز متسلسلة. فيما نقلت بعض المواقع أنّ ليلة الهجوم لم يتواجد هذا العدد منهم.
ثانياً: بعد اجتياز النقطة التي يكمن فيها هؤلاء الحرّاس، يخضع زبون الملهى لتفتيش عبر جهاز استشعار ومثل هذا الجهاز موجود في المطارات والسفارات والإدارات العامّة، كما يخضع للتفتيش من قبل حارسَين.
ثالثاً: داخل الملهى يوجد أكثر من 20 حارساً ضخماً يحومون حول زبائن الملهى لحمايتهم واكتشاف أيّ أمر مريب ومن ثمّ إجراء المقتضى لتأمين الحماية.
رابعاً: الإرهابي الذي نفّذ الهجوم مرّ عبر هذه الحواجز وأطلق النار وقتل 39 شخصاً وجرح 60 آخرين، وأُصيب كلّ شخص بـ3 رصاصات على الأقل، ما يعني أنّه أطلق أكثر من 240 رصاصة.
خامساً: إذاً لقد غيرّ الجاني الرصاص أكثر من 8 مرات، وبين كلّ تغيير احتاج لـ15 ثانية.
وقد ختم اينان ملاحظاته الموضوعيّة بالسؤال التالي: "أين كان حرّاس الملهى؟ لم يكن لدى أحد الشجاعة لاطلاق النار على الإرهابي؟ كيف يصدّق أنّه بقي يطلق النار لمدة 10 دقائق ثمّ هرب".
أمام هذا المشهد فسّرت أوساط مراقبة تلك المجزرة بالإضافة إلى اغتيال كارلوف، بأنّه اللبنة الأولى لتغييرات جذرية عاصفة في تركيا. لم تعد المسألة في طبيعة الأمور محصورة بالمدى التركيّ، بل هي متجهة نحو مزيد من التشعّب. إذا إنّ مجزرة برلين كانت سابقة لها، من دون نسيان ما حصل في باريس وبلجيكا. لكن تعتبر تلك الأوساط بأن البون شاسع بين تركيا وفرنسا وبريطانيا، فالأمن التركيّ فقد مقومات وجوده بعد محاولة الانقلاب الفاشلة على أردوغان، فيما الأمن في أوروبا لا يزال متينًا وقويَّا ذلك أنّ استكبار أردوغان وجموحه نحو الآحادية بسربال الفساد واستهلاكه لمتشددين والتكفيريين في الحرب السوريّة، أوصل تلك البلاد إلى هاوية، وفيها قد تنفجر حروب عبثيّة إذا لم تقوَ روسيا على إحداث التوازن في هذا النسيج.
وتعتبر هذه الأوساط عينها، بأن مشروع الهدنة في سورية خيار تكتيكيّ ولكنه ليس خياراً استراتيجيّاً، ويشاء الخيار التكتيكيّ أن يفعل فعله في تطويق المناطق التي يتواجد فيها "داعش" والنصرة، وقد جاء في متنه بأنّ الحرب على الإرهاب لم ولن تتوقف بمعنى تنظيم "داعش" وجبهة النصرة وأحرار الشام. وهو يعبّر عن اختبار لصدق أردوغان وتوجهاته، كما هو اختبار لقوى المعارضة التي ستجلس على الطاولة في الاستانة للتفاوض وإرساء حلّ سياسيّ يخرج سورية من دائرة الحرب إلى واحة السلام. وعلى الرغم من أهميّة التفاوض، يعتبر مرجع دبلوماسيّ كبير، بأنّ الحرب على الإرهاب يفترض أن يكون خيارًا كونيًّا تتجانس فيه الدول المعنية والمستهدفة، وتتوحّد في قلب هذا الخيار بتجسيده، فيتم ضربه من أصوله واقتلاعه من جذوره. ويشدّد هذا المرجع على أنّ ما حصل في تركيا وما يحصل في العالم كلّه يفترض أن يكون حافزاً حقيقيّاً لتفعيل تلك الحرب. ويؤكّد بأنه يجب القضاء على تلك المنظمات الإرهابيّة في سورية والعراق وعلى الحدود اللبنانيّة-السوريّة والحدود السوريّة الأردنيّة. وبمقدار ما يعوّل أهميّة قصوى على أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله، والرئيس السوريّ بشار الأسد بفعل انتصاره، والرئيس اللبنانيّ العماد ميشال عون الحريص على وحدة لبنان بمنعة مسيحيه ومسلميه ورؤيته العميقة للمنطقة، فلأنه فاقد للأمل فيما خصّ الرئيس التركيّ رجب طيّب أردوغان، فهو رئيس مريض نفسيّاً، قتله غروره فقتل وطنه ونحره على المذابح التكفيرية العدميّة، ويؤكّد بأن تركيا لم تعد تملك القدرة لتكون طرفًا معواناً في الأمن، لقد انكسرت من الداخل، وانعطب هيكلها فكيف لها أن ترعى الحلّ في سورية؟
ويعوّل هذا المرجع الدبلوماسيّ الكبير، أهميّة قصوى على إدارة الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب، ويعتبر بأنّه شفاف وصادق وهو مؤمن بضرورة التعاون مع الإدارة الروسيّة في تكوين مرحلة جديدة حبلى بالتوازن، وأولى خطواته وهو على أهبة استلام الحكم ذلك الحوار الجاري من قبله وبين الديبلوماسية السورية، وهو متلاق مع الرئيس السوريّ بشار الأسد، ومع الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين بأن النظام العالميّ الجديد، ونظام شرق أوسطيّ جديد لا يمكن أن يتمّ إلاّ بالقضاء على الإرهاب جذرياً وجذوريّاً. فالتوافق هذا بإمكانه أن يكون وعاء كبيراً تتجمع فيه عناوين المرحلة المقبلة في بناء تسوية بدأت طلائعها في لبنان وتوازن مع الحسم في حلب.
وعلى الرغم من مأساة ملهى رينا، فإنّ دماء الضحايا الزكية ومن بينها دماء الياس وريتا وهيكل، والجرحى الأبرياء، بداية ربيع جديد ستنسّم نسائمه وفجر جديد تطلّ أنواره خلف الشفق الأحمر. سقط أحبتنا شهداء للحياة، ومعهم سنثبت بأنّ النور أقوى من الظلمات، والحياة المليئة بالمحبة والفرح أقوى من أي موت عبثيّ.
مكافأة الشهداء بل عيدهم وعيدنا، يكون بعالم خال من الإرهاب ووحوشه الضارية.