وجهات نظر

هل ينهي زمن الكورونا عصر الاتصال الشخصي المباشر؟

د. منذر علي أحمد


 الإعلام تايم || بقلم  د. منذر علي أحمد

 

 ظهر مفهوم الاتصال مع ظهور الإنسان، وأخذ هذا المفهوم المهم بالتطور شيئاً فشيئاً نتيجة التطورات التقنية والاجتماعية التي ظهرت عبر مراحله المختلفة، وقد ترافق تطور الاتصال مع تطور الحضارات الإنسانية عبر الزمن، ولم يقتصر هذا التطور على الشكل فقط، بل شمل أيضاً الغايات والمضمون، وهو ما حصل مع مفهوم الاتصال الشخصي أو المباشر الذي يتم بين عدد من الاشخاص بشكل مباشر ودون وسيط بحيث يكون التواصل عن طريق كلمات، أو إشارات أو حركات.


وتطور هذا المفهوم نتيجة ظهور وسائل الاتصال الإلكترونية الحديثة إلى مفهوم أوسع وأصبح هناك أنموذج جديد لاتصال شخصي غير مباشر (يحتاج إلى وسائل تكنولوجية مساعدة) وهو الذي يتم بين عدد من الاشخاص بواسطة استعمال التكنولوجيا لإيصال الرسالة واستقبالها... وعلى هذا أصبح الاتصال الشخصي نوعين: اتصال شخصي مباشر (دون وسيط تكنولوجي)، واتصال شخصي غير مباشر (مع وسيط تكنولوجي). ويختلف الاتصال الشخصي الجماهيري بأنه لا يحتّم وجود أداة تكنولوجية لإيصال المعلومات أو تبادلها بين الأفراد، أما الجماهيري فهو دائماً يحتّم وجود هذه الأداة.


يمكن القول بوجود مدخلين لتعريف الاتصال؛ المدخل الأول: ينظر إلى الاتصال على أنه عملية يرسل فيها طرف مرسل رسالة إلى طرف مقابل، بما يؤدي إلى أثر معين، أما المدخل الثاني: يرى أن الاتصال يقوم على تبادل المعاني الموجودة للرسائل، من خلال تفاعل أفراد الثقافات المختلفة، وذلك لتوصيل المعنى وفهم الرسالة.


بطبيعة الحال يعرف مفهوم الاتصال على أنه عملية تبادل المعلومات والآراء بين طرفين أو أكثر، من أجل التفاهم حول نقطة معينة أو أكثر، أو من أجل إعلام الآخرين بأمر ما، أو من أجل توطيد العلاقات الإنسانية مع المجتمع المحيط.

 


ويتكون الاتصال من ثلاثة عناصر رئيسة؛ المرسل الرسالة والمستقبل، ونتيجة التطورات التي حصلت في وسائل الاتصال وأدوات نقل المعلومات أضيفت إليها التغذية الراجعة أو رجع الصدى. وعلى هذا بات الاتصال يعرف ببساطة بأنه "عملية نقل المعلومات من المرسل إلى المتلقّي بواسطة وسيلة اتصال، وأحياناً يتبعها تغذية راجعة أو رد فعل"، وأصبح الاتصال الشخصي ينقسم إلى قسمين:


اتصال شخصي مباشر: هو الذي يتم بين عدد من الاشخاص بشكل مباشر ودون وسيط بحيث يكون التواصل عن طريق كلمات أو إشارات أو حركات؛ مثال: محادثة بين أصدقاء في مقهى.
اتصال شخصي غير مباشر: وهو الذي يتم بين عدد من الأشخاص بواسطة استعمال التكنولوجيا لإيصال الرسالة واستقبالها؛ مثال: مكالمة هاتفية، رسائل نصيّة.
أما الاتصال الجماهيري فهو نوع من الاتصال الذي يتطلب بطبيعة الحال وجود جمهور مستقبل. مثال: خطاب مصور للرئيس يتوجه فيه للجمهور.
بطبيعة الحال لا تختلف عناصر عملية الاتصال الإلكتروني كثيراً عن عناصر عملية الاتصال التقليدية، التي تتكون من (رسالة، مرسل، قناة بث أو إرسال، ومستقبل)، وقد يعترض وصول هذه الرسالة بعض التشويش، وقد يحصل عملية تغذية راجعة أو رجع صدى من المتلقي.


لعل أشهر النماذج الأولى التي تحاول توصيف عملية الاتصال أنموذج لاسويل للاتصالLasweus model of Communtion  الذي وضعه العالم الأمريكي (هارلد لاسويل) عام 1948، ويمكن استخدام هذا الأنموذج وتطبيقه في تحليل الدعاية السياسية، وأثرها على الرأي العام وخاصة في تحليل الحروب النفسية وفي عملية الإعلان التجاري. ويرى لاسويل أن أنموذجه هو الطريقة المناسبة لوصف عملية الاتصال وذلك بالإجابة عن الأسئلة التالية:
1- من المرسل؟
2- ماذا يقول في الرسالة؟
3- ما الوسيلة؟
4- من المستقبل؟
5- التأثير


من أهم الانتقادات التي وجهت إلى لاسويل هو اهتمامه المبالغ في تأثير العملية الاتصالية على المستقبل ربما لأن تركيزه انصب على دراسة وتحليل محتوى الدعاية الأساسية والرأي العام في أمريكا، كما أن هذا الأنموذج انتقد كثيراً بسبب إغفاله عنصراً أساسياً، وهو عنصر الاستجابة أو التغذية الراجعة من أنموذجه، فالاتصال لديه يسير في اتجاه واحد؛ من المراسل إلى المستقبل ليحقق تأثيراً ما.


وشهدت العقود التي تلت أنموذج لاسويل تطورات كبيرة في قطاعات مختلفة كانت تسير في خطوط متوازية لا تقاطع بينها، ولكن بفضل التطورات التقنية ودخولنا عصر الرقمنة أمكن التزاوج والتلاقي بين هذه القطاعات كما حدث مع قطاعات الإعلام والمعلومات والاتصالات.


إن فكرة اندثار أشكال الاتصال الشخصي ليست بجديدة، فقد ساد اعتقاد سابق بأنه ونتيجة  لظهور المجتمع الجماهيري والصناعي ونتيجة لانتشار وسائل الاتصال الجماهيري، فإن الاتصال الشخصي آخذ في الاضمحلال، وأوضح ذلك الباحث الأمريكي أليهو كاتز A.Katz  من خلال العبارات التالية التي تحدث فيها عن طلبة الإعلام في الولايات المتحدة الأمريكية ونظرتهم لوسائل الاتصال الشخصي ووسائل الاتصال الجماهيري، ويقول: "حتى وقت قريب كانت صورة المجتمع في أذهان أغلب طلبة الإعلام أفراداً منفصلين متصلين بوسائل الإعلام، وليس بعضهم ببعض وأعطى قليلاً من الاهتمام للعلاقات غير الرسمية... وعلى هذا لم تكن العلاقات الشخصية ذات أهمية لمؤسسات المجتمع الحديث".


في وسائل الاتصال التقليدي لم تكن عملية التفاعل إلا مبادرةً ذاتية وشخصية من عددٍ قليلٍ من الأفراد، بينما توفر الوسائل الاتصالية الإلكترونية نظاماً متكاملاً من الأدوات التفاعلية التي تساعد على إجراء عملية التفاعل معها بشكلٍ سهلٍ وسلس.


في زمن الكورونا بدأنا بسماع مصطلح "التباعد الجسدي" وظهر هذا المصطلح بهدف التأكيد على أهمية الحفاظ على مسافة جسدية رغم أن أهمية الحفاظ على تواصل اجتماعي وعاطفي مع الأصدقاء والعائلة تزداد في الأوقات العصيبة.. فما أحوجنا في الوقت الحالي إلى دعم بعضنا بعضًا، ولكن مع الحفاظ على التباعد الجسدي قدر الأمكان.

 

في زمن الكورونا بدت مسألة التباعد الاجتماعي أمراً حتمياً لا مفر منه، طالما أنه لم يتم إيجاد لقاح أو علاج ناجع لهذا الوباء الخطير حتى الآن، وهنا لا نقصد بالتباعد القطيعة والتنافر والتناحر العائلي والمجتمعي ولكن نقصد به الحفاظ على مسافة أو مساحة بين الأشخاص للمساعدة على منع انتشار المرض.


بهدف المساعدة على إبطاء انتشار هذا الفايروس وتقليل خطر الإصابة به، يجب أن نبتعد عن الآخرين مسافة لا تقل عن (1.8 متر)، ويعد الحفاظ على هذا التباعد الجسدي أمراً مهماً، حتى لو لم يكن الشخص مريضاً. ربما من نعم التكنولوجيا علينا أنها تعطينا فرصة الحفاظ على التباعد الجسدي، وتمنحنا فرصة الحفاظ على التواصل الاجتماعي بالناس من خلال ما تقدمه لنا من تقنيات متطورة.


ما سبب أهمية التباعد الاجتماعي في هذا الوقت؟


نعرف أن الاتصال الشخصي المباشر يحدث نتيجة الاحتياجات الطبيعية؛ هذا يعني أن اللقاءات التفاعلية بين الناس تولّد داخلهم الحاجة إلى التواصل بطريقة أو بأخرى، ويمكن أن يكون ذلك عبر الاتصال المباشر، ويسمّى أيضاً بالاتصال الشخصي، وهذا الاتصال يكون بين شخصين أمام بعضهما بعضاً، أو أكثر من شخصين، وهذا الاتصال يتيح للأشخاص التعرف إلى بعضهم بعضاً عن قرب، كما أنّ هذا الاتصال يسمح للشخص بكلّ سهولة أن يعدل رسالته، ويعتذر من المستقبل إذا أخطأ بأمر ما، وبهذا الشكل يكون هذا النوع من الاتصال أكثر فعالية من غيره من أنواع الاتصال بالإقناع، وبإيجاد الحلول لبعض المشكلات.. قد يكون الاتصال لفظياً؛ حيث يتم نقل المعلومات من خلال الموجات الصوتية، أو غير لفظي يعتمد بشكل كبير على لغة الجسد، وإيماءات الوجه.


جميع أشكال الاتصال المباشر التي اعتاد الإنسان استخدامها منذ الخليقة، قد تضطره مسألة الحفاظ على صحته إلى استبدالها أو الاستغناء عنها، فالهمس واستعمال نبرات الصوت المختلفة، وخاصة الخافت منها قد لا تكون متاحة في المستقبل القريب، وحتى الإيماءات والضحكات ستكون مخفية بسبب الكمامات.


إن كل أشكال ونماذج الاتصال التي يكون فيها الهواء القناة الناقلة للرسالة من طرف إلى طرف عرضة للتغير وربما الاندثار في حال استمر هذا الوباء. فهناك احتمالات كبيرة بأن يكون الهواء والرذاذ المتطاير من لعاب أحد الطرفين خلال السعال والعطاس سبباً في انتشار هذا الوباء ونقلة من شخص إلى آخر بشكل متسلسل وخطير.

 


وكما بات معروفاً للجميع ينتشر فايروس كورونا بسهولة من خلال رذاذ القطيرات الصغيرة الناتجة من السعال والعطس. يمكن أن ينتشر أيضًا من خلال الاتصال اليومي؛ مثل: المصافحة، أو مشاركة الأشياء، أو لمس الأسطح المشتركة. قد لا تظهر أعراض على بعض الأشخاص، لكن لا يزال بإمكانهم نقل الفيروس إلى الآخرين، وحتى عندما يشعرون بتحسن، قد يستمرون في نشر الفيروس بعض الوقت.


قد تبدو مسألة الدعوة إلى تحقيق التباعد الاجتماعي في مجتمع (كمجتمعنا العربي) الذي يولي أهمية كبرى لمختلف أشكال التواصل الاجتماعي، ويعتمد بشكل كبير في أحكامه على حدسه وعلى الانطباع الأول المتولد في الاتصال المباشر، ويعطي أهمية كبرى للعلاقات الأسرية وزيارات الأقارب في السراء والضراء مسألة صعبة المنال والتحقيق، ولكن كما يقال درهم وقاية خير من قنطار علاج، فما بالك إن لم يكن هناك علاج حتى الآن، من هنا وريثما يجد العلماء علاجاً ناجعاً لهذا الوباء سيبقى الاتصال الشخصي المباشر بين الناس في حالة تهديد من هذا الفايروس، كوننا مضطرين إلى الحفاظ على التباعد الجسدي في المنزل واحترام "المساحة الشخصية"، حتى بين أفراد العائلة الواحدة.


وتبقى مسألة عدم مشاركة أشيائنا الشخصية كالهواتف وأدوات الشراب والطعام مسألة ممكنة لكنها صعبة التحقيق (لكن غير مستحيلة) بالنسبة إلى الأدوات الأخرى كأجهزة التحكم عن بعد ومقابض الأبواب ومفاتيح الكهرباء وصنابير المياه وغيرها التي قد تولد الكثير من الحساسيات بين العاملين في المؤسسات، وحتى ضمن أفراد العائلة الواحدة، وحلها يكون ببساطة بالتزام الجميع بعادة غسل الأيدي بمجرد الدخول إلى المنزل.


ويرى العديد من الباحثين أن التكنولوجيات التي ستسمح بمواصلة الروابط الاجتماعية ستخرج معززة من هذه الأزمة؛ لأن الإنسان يبقى كائناً اجتماعياً بامتياز، وغير مستعدٍ للعيش منقطعاً عن الآخرين.

Copyrights © al-elam.com

المصدر:   http://www.emediatc.com/?page=show_det&category_id=15&id=84499