وجهات نظر

دور المثقفين والمفكرين في الحضارة الأوربية

ربيع عبد الرحمن


مما لاشك به أن الإسهامات الفكرية للمثقفين والمفكرين لم تكن لتغني الحياة الثقافية  وحركتها وحسب بل كانت وستبقى بمثابة  الرافد الأكبر الذي يصب في خطوط نماء المجتمعات ونهضتها إذ تعتبر  هي المحرك الديناميي  الفعلي الدافع لها في صعودها لسلم الحضارة.

 

وإذا ما أردنا الخوض في النتاج الفكري والمعرفي للمثقفين والمفكرين  ودوره وتأثيره الفاعل  في تشييد أعمدة البنيان الحضاري في المجتمع  فلابد لنا  بدايةً من التوقف عند فاعلية التأثيرات المحدثة  المنطلقة من الفعل الثقافي والفكري إلى ساحة الثقافة المجتمعية  العامة وحالتها الوضعية والتي   هي من الأهمية أنها تفرض نفسها كشرط جازم بأن تكون مهيأة لتستقبل النهوض وتجذبه وتكون الأرضية القابلة والمتقبلة له  والرؤية  حتماً هنا لا تكون بالإنكفاء   بمراقبتها كصيغة ماركسية بأن الثقافة هي نتاج المجتمع  بل  يكون ذلك بالتعاطي  معها من منظور أنها كائنة تحتاج إلى قوى حية فاعلة دينامية محركة تضمن لها إستمراريتها وتطورها الديناميكي وتمنع عنها أن تؤول إلى حالة الثبات والسكون والجمود.

 

وإذا ما إبتعدنا  عن تعريفات الثقافة  والتي قد بلغت ١٦٤ تعريف كما جاء في كتاب المدخل إلى سيسيولوجيا الثقافة لديفيد انجليز وجون هوستن .


لكي نخلي المكان للعقل  التحليلي  الفلسفي  المتفحص لا العقل  التعريفي الوصفي سنجدها  بنيوياً مكونة من وجهين رئيسين: 


١) وجه مستبطن عميق لا يستدرك إلّا من خلال السبر وهو منطوي على التصورات والمنظورات الكلية التي تحكم رؤيتنا للعالم  إضافة لسلم ترتيب القيم والمعايير والترويج الثقافي الذي يعطي الأوزان لتلك القيم .


٢) ووجه ثاني هو تمظهر منتوج للوجه الأول اي انعكاس للمسطرة الداخلية والمفاهيم الكلية والقيم الأساسية تلك ومكون من اللغة ، العادات ، التدين ، الموسيقا ، الذائقة الفنية والأدبية ، الحس الجمالي ، السلوك ، الأخلاق .


وبالعودة لمبحثنا عن أثر التفاعل  ذاك الحاصل بين المنتج المعرفي للمفكرين والحالة الثقافية للمجتمع والتطورات الحاصلة لها في بنيانها  المنتج  مظاهرها العامة فإننا سنجد قصدنا في تجربة الحضارة  الأوربية  ونهضتها عيّنة  لسنا منها في حل كبيئة ثقافية إجتماعية إجتاز بها مثقفوها ومفكريها للعبور الحضاري بمجتمعات مركبة مابعد البسيطة . وذلك بما أحدثوه من تطور نوعي وكيفي في الجسد الثقافي العام إن كان في حيز المنظورات والتصورات  العميقة و في سلم القيم   وأوزانها  التي  تشكل الوجه العميق للثقافة المجتمعية  وبوابة الإدراك والفهم لأي مدخلات أو في تمظهر ذلك التطور في المظاهر الثقافية في السلوك  والأخلاق أوالعادات والفنون وبالتالي بالنهوض العام بالمجتمع.

 

إن تداولنا شأن نهضة الحضارة الأوربية كعنوانين  بارزين مفصليّين كجوهر  في  التحول المحدث في  الفكرة الثقافية المركزية من حيث المضمون المنتج للشكل  لن يكون كنوع من الإختزال ولن نورد هنا الحضارة الأوربية كتمرحل أو كزمن متسلسل أو كتتالي  والذي بات في متناول الكثيرين لمن أراد معرفته وإنما  بالعنونة من خلال  الجوهر والأهمية.

 

 العنوان الأول كان في محاولة فهم الإنسان ودوره ودراسة أطباعه وحركته وطرائق تفكيره  والتوجه إلى إمكانياته و ماذا يستطيع أن يفعل الإنسان والتي خلصت إلى أن قيمة الإنسان في عقله وروادها كثر كروجر باكون سغموند فرويدومارتن لوثر ألفريدو ميسى وجان جاك روسو إضافةً لدور ديكارت المحوري والفلسفة الديكارتية بتحرير العقل من الخرافات والأساطير  وإخضاع نسبية المعرفة إلى التحقق عبر أدوات قياسية.



فعملت تلك النتاجات المعرفية على إعادة الثقة بالعقل  بل , تخطت ذلك بإعادة فحص اليقينيات الراسبة ''الأشياء التي كانت تبدو واضحة ويقينية عندما وضعت على المشرحة ظهر بعضها كضباب فولتير .


وهو ماكان بمثابة إعادة فحص الجهاز المعرفي برمته لدى الإنسان في المجتمع الأوربي من الأفهام  ومدركات الوعي كمدخلات إلى التصورات والأفكار والقيم الحاكمة.وإحداث نقلة معرفية في التوجه  الثقافي نحو جرأة المعرفة لأن المجتمعات التي لا تمتلك جرأة المعرفة لا تمتلك الحياة حسب كانط كما لا يمكننا التغافل هنا  عن ذكر الدور والجهد الكبير الذي قدمه دينس ديدرو بقيادة الموسوعة الفلسفية.

 

أما العنوان الثاني فكان محاولة فهم صيغة الكون وقوانينه خارج إطار أن هذه المعارف جاهزة ولاينبغي سوى تكرارها، حيث كان المعتقد العام  بأن العلم مشروع تم إنجازه وما أحدثته إكتشافات كوبرنيكوس وغاليلو من قلب للمفاهيم ضمن تلك البيئة العصية.

 

كما ساهم نحت المناهج المعرفية والعلمية على يد الماركيز دوكوندو ورينيه ديكارت وآخرين في فتح أفاق الوعي وسبر الطبيعة  'فوائذ الرياضيات الكبرى إسحاق نيوتن'  كمحاولة للإمساك بالطبيعة وفحص صلاتها والتقدم من خلال ذلك بإسقاطها على المسار الصناعي  والنهضة الصناعية وهو ما أتى أوكله في القرن التاسع عشر من النهضة االعلمية والتي نشاهد أثارها  اليوم  وإمتداداتها  في إنتاج التقنية العلمية وتكنولوجيا المعلومات .

 

إن نتاج المفكرين والمثقفين المعرفي الضخم ذاك كان من الأهمية الكبرى بانه جاء كمنطلق  لمسار غير منتهي أو متوقف عند تلك الإنجازات ما منح الثقافة ألياتها الميكانيكةلتحدّث ذاتها ديناميكياً عبر ترسية ثقافة السؤال وترسيخ العقل النقدي وبالتالي ليس بالعمل لتطوير تلك المنتجات الفكرية وحسب بل بظهور نظريات جديدة مغايرة  تماماً لتلك النظريات التي أشبعت وهذا تجلى في العديد من نظريات المفكرين ونتاجهم فبعد أن تشبّعت نظرية العقل ظهر سيغموند فرويد ليقول لنا أن العقل الواعي ليس كل شي وإن السر هو في العقل اللاواعي وبعد ان وجد هيغل أن أساس العالم هو التفكير وأن العالم  حولنا هو نتاج عالم الأفكار يظهر كارل ماركس بالمنافيستو و العالم المادي وبعد النظريات  بأن العالم منتظم ومنظم فهو مخلوق يظهر دارون بنظرية النشوء والإرتقاء وبعدإشباع نظرية نيوتن وتلميذه إينشتاين يظهربلانك ليقول لنا أن العالم قد يكون مكون من موجات  كوانت فيزيكس  كما بعد مدرسة التأويل التي إعتمدت النظر في النصوص القديمة ممثلةً نيتشه وفرويد وماركس والتي تقوم على كشف تزييف الوعي في النص معتمدةً الشك الديكارتي  لتظهر المدرسة التفكيكية على يد جاك دريدا معتمدة تفكيك النص في الثغرات وعلى مبدأ الإستبعاد. 

 

وبالخلاصة فإن أهمية ما قدمه المثقفين والمفكرين الأوربيين كان بالإجتياز الثقافي بالتصور العام  من إعتقاد أن العلم مشروع أنجز إلى ثقافة أن العلم مشروع لا يمكن إنجازه  وهو ما جعل الأبواب مفتوحة غير موصدة على الإكتشاف  العلمي والمعرفي، كما بالإنتقال من  نمط  ثقافة التكرار والتخزين البنكي إلى نموذج ثقافة السؤال كحاجة معرفية وعلمية  التي بدورها أوجدت  الفضاءات التي كانت مغيبة  بفعل القولبة الإطارية وإنسداد الأفق.

 

وختاماً "إن كل ما نشهده اليوم من تطور علمي وتقدم تقني  مذهل كان مبناه على ما قد أنجز في مراحل سابقة من نتاج  معرفي وعلمي ضخم تم بفعل  الكتلة الحية المثقفة المبدعة التي حملت الأفكار والعلم وأوردتها إلى المجتمع وثقافته فإعتلت به وأرتقى بها، ولأننا  لا يمكن لنا أن نغلق القوس على الكلمات دون إسقاط ومقاربات على شأننا العربي  بدوافع عدة وتحيزات عديدة ولكي لانترك مساحات فضائنا مزدحمة بالأسئلة"  .
فلنقف عند سؤال البداية كي لا نتوه عن المسار.


  والسؤال هنا كم ستكون حاجتنا  كبلاد عربية  لمثقفين ومفكرين مبدعين للحاق بركب العصر   بدءً من خلق البيئة التي تنتج مثقفين  من  فعل القراءة  وتوفر الكتب  ثم إلى الإنتقال بالفعل الثقافي نحو الكتابة  والتأليف والإنتاج المعرفي والعلمي ؛ إذا ماأدركنا أن كل تلك النتاجات المعرفية والعلمية الضخمة هي بالمحصلة  ليست إلٌا نتاج لتفاعلات علائقية متدرجة ومستمرة ما بين القراءة  والكتب وبين الإنسان !!!
 

Copyrights © al-elam.com

المصدر:   http://www.emediatc.com/?page=show_det&category_id=15&id=83279