وجهات نظر

من رامبوييه إلى جنيف : " كوسوفو في البال "

د. عصام تكروري


في أحد حواراته التي تعود إلى ستينات القرن المنصرم صرّح الراحل فاتح المدرس أنَّ "تاريخ البشرية لا يُشرًف حتى الجرذان نظراً لسلسلة لا تنتهِ من الحروب والمجازر"، ربما ستبقى هذه العبارة صالحة لكلِّ الأزمنة ما لم تحظَ البشرية بلحظة سلام تكون هدنة بين ظلامين : ظلام الرحم وظلام القبر، الفوز بلحظةُ السلام تلك ربما الدافع الأكبر لمحاولات البشر وضع حدٍّ للحروب سواءٌ من خلال الإبادة الكليّة للخصم كما يفعل القتلة المهووسون بفكرة الأبدية، أو عبر التفاوض بغاية التوصُّل لاتفاق يسمح للقادة / الخصوم بأن يتقاسموا على الطاولة ما غنموه في ساحات القتال ففي الخاتمة ليس التفاوض إلا استكمالاً للحروب و لكن بوسائل ناعمة . من هنا في حال إعلان فشل المفاوضات يخلع المتفاوضون بدلاتهم الأنيقة، ويغادرون القاعات جيدة الإنارة ليعودوا مجدداً إلى الخنادق كي يحسنوا من شروط التفاوض، قبل أن يعودوا مجددا إلى الطاولة.
في الحقيقة، هذه القواعد العامة لمفهوم التفاوض طرأ عليها تعديل بسيط في " الحقبة الأمريكية"، فرعاية واشنطن لمفاوضات السلام باتت نذيراً بحرب يخرج فيها كل أطراف التفاوض خاسرين، اما كلمة السر فهي " فشلت " ، كلمة تعلنها واشنطن بالنيابة عن أصحاب الشأن، وتتبعها بحرب تشنّها على الدولة التي يعيش فيها مؤيدو الأطراف المتفاوضة، ويكون الخاسر الأكبر فيها الطرف الذي جعل من واشنطن وليّه و نصيره، وهذا بالضبط ما حدث في كوسوفو عام  1998، وما تلوح به واشنطن اليوم في تعاطيها مع الشأن السوري.
في عام 1989 أطلق سلوبودان ميلوزوفيتش صيحته الشهيرة : "إن كوسوفو هي مهد صربيا، ويجب أن تعود إلينا"، صيحةٌ اتبعها بمرسوم يعلن فيه إلغاء الحكم الذاتي الذي تمتع به الإقليم منذ عام 1974.
فشلت كل الجهود السلمية التي قادها ابرهيم روكوفا ـ الزعيم السياسي لألبان كوسوفو ـ لإقناع ميلوزوفيتش بإعادة الحكم الذاتي، ولكن ما أن نجح الفريقان ـ في عام 1996ـ  بتوقيع اتفاق أوسلو الذي منح الإقليم الحق بإدارة التعليم كخطوة لاستعادة الحكم الذاتي حتى فوجئ الجميع في حزيران من عام 1997 بظهور " جيش تحرير كوسوفو" المموَّل و المدعوم من قبل ل C I A. .  بحسب نعوم تشومسكي، هذا الجيش  كان مؤلفاً ـ بحسب وزير الدفاع البريطاني جورج روبرتسون في شهادته أمام مجلس العموم ـ " من رجال العصابات، وهو مسؤول عن سفك الدماء بكوسوفو بدرجة اكبر من السلطات الصربية، فمن بين 2000 قتيل سقطوا في كوسوفو كان حوالي 1500 منهم قد قُتلوا على يد هذا الجيش الذي أعلن صراحة أنَّ هدفه قتل المزيد من اجل حشد تأييد شعبي يُمهد لتدخل حلف الأطلسي " .
في الواقع، هذا التدخل تم  بعد سنتين فقط من إنشاء جيش تحرير كوسوفو، فعلى أثر احتدام القتال بين هذا الجيش والقوات الصربية تداعت مجموعة الاتصال الدولية ( الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا، وألمانيا، وفرنسا، وبريطانيا، وإيطاليا) لجمع الفريقين حول طاولة المفاوضات في رامبوييه في فرنسا في 6 شباط 1999، وانتهت الجولة الأولى منها بتوقيع اتفاق مؤقت حول الشق السياسي للتسوية التي تضمنت منح إقليم كوسوفو حكماً ذاتياً ديموقراطياً وتسليم جيش تحرير كوسوفو لأسلحته، في حين رفض الصرب الشق العسكري المتضمن نشر قوات دولية في الإقليم، وعليه تم تأجيل مناقشة هذا الأمر للجولة الثانية التي تقررت بعد فترة ثلاثة أسابيع ( في 15 آذار 1999)، هذه الفترة استغلها الأمريكيون لتدريب وإعداد الوفد المفاوض لجيش تحرير كوسوفو برئاسة هاشم تقي، وليوجه الرئيس كلينتون خلالها إنذاراً أخيراً للصرب بضرورة الموافقة على الشق العسكري للتسوية المقترحة، رأى ميلوزوفيتش في هذا الإنذار إهانةً للصرب فأعلن مجدداً رفضه لنشر أي جندي أممي على إقليم كوسوفو حيث تربض البطريركية الصربية.
وعلى الفور خرج المبعوث الأمريكي ريتشارد هولبروك معلناً فشل المفاوضات، وأظهر الكونغرس دعماً  لم يكن موجود سابقا  لقرار الرئيس الأمريكي توجيه ضربة عسكرية جوية للصرب بواسطة الناتو، هذه الضربة / العدوان لاقت ترحيبا من فرنسا وبريطانيا وألمانيا الذين لم يلقوا بالاً لتصريحات موسكو وبلغراد من أن المفاوضات لم تفشل وهي ما زالت قائمة.
في 24 مارس 1999 بدأ الناتو بقصف يوغوسلافيا، تواصلت الهجمات الجوية لمدة 78 يوماً، بعدها وافق الصرب على الانسحاب من كوسوفو ونشر قوات أجنبية فيها.
وفي تبريرها لعدوانها الذي شنّته بدون استصدار قرار من مجلس الأمن يجيز ذلك أعلنت واشنطن أن هكذا قرار كان من المستحيل التوصل إليه بسبب تهديد الروس باستخدام الفيتو لحماية حليفهم الصربي، موضحة ً انَّ " التدخل العسكري الإنساني " للناتو يجد مشروعيته في القرارين 1160 و 1199 الصادرين عن مجلس الأمن في عام 1998 بخصوص النزاع في كوسوفو، فالقرارين صدرا تحت الفصل السابع، وسمحا للمجلس باتخاذ "إجراءات إضافية في حال عدم الوصول لتسوية سلمية للازمة "، ناهيك عن أن القرار 1199 نص على أن الوضع في كوسوفو يُشكل تهديدا للأمن والسلم الدوليين. ( هذه العبارات مجتمعة موجودة في القرار 2118 لعام 2013 الصادر بخصوص السلاح الكيماوي السوري )

في الواقع، هذه التبريرات الأمريكية ليست إلا هرطقات لا أساس لها في القانون الدولي، هرطقات كان الهدف منها طمس جريمة العدوان التي ارتكبها الناتو ليس فقط بحق سيادة واستقلال صربيا بل أيضا بحق ألبان كوسوفو إذ ـ وبحسب التقرير الصادر عن المفوضية العليا للاجئين عام  2000 ـ أدى تدخل الناتو إلى اتساع حملات التطهير العرقي و جرائم الاغتصاب وصار القمع الصربي للحركة الإنفصالية الألبانية أكثر وحشية، كما تورط  الناتو في ارتكاب جرائم إبادة  بحق المدنيين.
وبيّن تقرير صادر عن المفوضية العليا للاجئين عام 2009 أنَّ ما يقدر ب 220 ألف من الألبان غير الكوسوفيين ما زلوا يعيشون خارج الإقليم متشتتين في أرجاء صربيا وأصبح أمر عودتهم شبه مستحيل بحسب تقرير أصدرته حولهم منظمة حقوق الإنسان في عام 2010.
كان الهدف من حرب كوسوفو هو تمريغ أنف روسيا في وحل حليفتها صربيا بغية القول ـ و للعالم أجمع ـ  أن ْلا قانون يعلو على قانون الغاب الأمريكي، وأنَّ واشنطن وحدها هي من يسهر على تطبيق القانون الدولي، ويضمن احترام المعايير الأخلاقية بشكل يمنحها حصانة تامة من عدم تطبيقهما على جرائمها بحق البشرية.
نعم يا فاتح ...تاريخ البشرية بنسخته الأمريكية أصبح يحمل العار حتى للجرذان ومدينتك حلب خير الشاهدين.

Copyrights © al-elam.com

المصدر:   http://www.emediatc.com/?page=show_det&category_id=15&id=5284