وجهات نظر

استراتيجية واشنطن في شمال سورية؟

عقيل سعيد محفوض


الإعلام تايم - الميادين

 

الولايات المتحدة أكثر تورّطاً في شمال سوريا مما يظهر، كما أن رهاناتها أكثر حدّة، إذ تُقيم قواعد عسكرية، وتُشكّل وتدعم قوات موالية لها، من الكرد والعرب، بالإضافة إلى قيادة غرف عمليات ومكاتب اتّصال وتنسيق في تركيا والأردن ولبنان وكردستان العراق وفلسطين المحتلة وغيرها، وتنظّم شبكات دعم وإسناد للجماعات المسلّحة من كل أنحاء العالم، وتتهيّأ كما لو أنها مُقبلة على مواجهة كبرى.

تقوم الولايات المتحدة بكل ذلك، على الرغم من عدم وجود أيّ طرف يُجاهر بالعداء لها، أو يعمل على تهديدها جدياً، كما أن جميع فواعل المشهد في شمال سوريا مهتمون بـ "التنسيق" مع واشنطن، أو على الأقل حريصون على عدم الدخول في صِدام مباشر معها، حتى تنظيم "داعش" غير مهتم باستهداف القوات الأميركية، ومنها ما هو قريب من مناطق سيطرته. ولكن ما هو هدف الولايات المتحدة في شمال سوريا، وأية استراتيجية أميركية حيال ذلك؟

تعمل واشنطن على احتواء مساعي دمشق وحلفائها لإعادة سلطة الدولة في الشمال، غير أن واشنطن مهتّمة أكثر باحتواء الدور الروسي والإيراني هناك؛ وروسيا وإيران مهتّمتان بكرد سوريا، وحريصتان على ممارسة تأثير جدي عليهم، واحتواء أيّ توريط أميركي لهم ضدّ دمشق، وضدّ مصالحهما بطبيعة الحال، كما أنهما تقيمان تفاهمات مُعقّدة –ومُثمرة حتى الآن- مع تركيا، وساعدتا دمشق على توسيع نطاق سيطرة الدولة في الشمال، وهذه أمور تُثير مدارك تهديد عالية لدى واشنطن.

هذا ما يدفع واشنطن لنهج استراتيجية نشطة ومركّبة، تُمسك بخيوط متعدّدة، وتدير التفاعلات والتفاهُمات مع الحلفاء والخصوم، والربط بين الملفات والقضايا، دولياً وإقليمياً، هناك ربط بين أزمتي سوريا وأوكرانيا، وربط بين دور إيران وحزب الله وبين مخاوف إسرائيل، ليس في جنوب سوريا فحسب، وإنما في المشهد السوري والإقليمي ككل، وكذلك الانتقال التفاعلي والمساومة في الملفات داخل سوريا نفسها، من الكلّي إلى الجزئي والقطاعي، والعكس.

وهكذا تعمل الولايات المتحدة على:

- إدارة التناقضات في شمال سوريا، بين ما تريده واشنطن وبين ما يريده حلفاؤها منها، إذ أن الأجندة ليست مُتطابقة، وتواجه تحدّيات كثيرة.

- ضبط الصراع بين حليفيها اللدودين، تركيا و"القوات الكردية"، بإدارة مخاوف كل منهما تجاه الآخر، إذ تُقدّم دعماً متزايداً للكرد في مواجهة "داعش"، وفي طموحاتهم الكيانية تجاه دمشق، كما تلتزم بدعم أمن ومصالح أنقرة بوصفها حليفاً تاريخياً لواشنطن.

- المُوازنة بين تطلّعات واشنطن وبين إكراهات خصومها، وخاصة موسكو، التي تبدو العلاقة معها أكثر تعقيداً، صحيح أن هناك تفاهمات حول خرائط النفوذ في الشمال، إلا أن واشنطن تعمل في الوقت نفسه على تحسين شروطها، ولكن بما لا يعرّضها لمخاطر الدخول في مواجهة مباشرة.

دير الزور - الرقة

ثمة نوع من التقسيم الوظيفي للعمل والسيطرة في شمال سورية، أميركا شرق الفرات وروسيا غرب الفرات. وقد استقرّت التقديرات على أن الرقة لسيطرة واشنطن فيما دير الزور  لسيطرة موسكو، إلا أن لدى الطرفين -منذ بعض الوقت- سياسات تتجاوز التقديرات المذكورة، إذ تُبدي واشنطن اهتماماً متزايداً بـ دير الزور، وقد عملت مؤخراً على نقل جماعات مسلّحة موالية لها من الجنوب قرب الحدود السورية مع الأردن والعراق إلى قواعد لها جنوب الحسكة وشرق دير الزور، وأُعلن عن تشكيل "لواء تحرير دير الزور" الذي قال في بيان إن هدفه هو "تحرير محافظة دير الزور من القوى التي تسيطر عليها، ومنع أية قوى أخرى مُعادية للثورة من دخول المحافظة والاستيلاء عليها". (10 آب/أغسطس الجاري)، المقصود هنا بالطبع هو الجيش السوري وحلفاؤه. فيما تدعم روسيا تقدّم الجيش السوري باتجاه الرقة، مُتجاوزة تحفّظ واشنطن السابق على تقدّمه باتجاه مناطق سيطرة القوات الكردية المدعومة من واشنطن.

عفرين

عندما ازداد التوتّر بين تركيا وكرد سوريا حول عفرين، التي تقع في منطقة نفوذ روسيا، أظهرت واشنطن اهتماماً أكبر بمصير المدينة، وقالت إنها تريد التعاون مع تركيا وروسيا لتفادي مواجهة هناك، قد تُسبّب إرباكاً جدّياً لاستراتيجية واشنطن في شمال سوريا، وخاصة إذا ما وجد الكرد أن واشنطن لم تكن بجانبهم، وهي لا تستطيع أن تفعل ذلك في مواجهة تركيا، حليفها التاريخي، كما لا تستطيع أن تقف على الحياد، وخاصةً مع تعثرّ  معركة الرقة. وقد زادت واشنطن من اهتمامها بالشمال الغربي، مع إعلان روسيا عزمها توسيع خطط التهدئة لتشمل عفرين ومناطق من ريف اللاذقية الشمالي.

إمارة إدلب

"جبهة النصرة" هي حليف موضوعي لواشنطن، لا ننسى إنها فرعة لتحالف قديم منذ "الجهاد الأفغاني"، وغير بعيدة محاولات واشنطن وأنقرة وغيرهما "تأهيل" النصرة لتكون بديلاً يمكن التعويل عليه في الحرب السورية، صحيح أن الأمور لم تمض بإيقاع سريع إلى خواتيمها، إلا أنها لم تنقطع، وقد خلقت قاعدة يمكن الانطلاق منها. وسبق لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن نبَّه إلى أن واشنطن كانت طوال الوقت "تحمي جبهة النصرة"، وأن موقفها من الجبهة "لُغز مُقلق"، كما أن استيلاء "النصرة" على مدينة إدلب وجزء كبير من ريفها، لم يخلق ردّة فعل مُتناسبة، من واشنطن وأنقرة.

 وإذا كانت الولايات المتحدة وتركيا تُصرّان على إدراج "إمارة إدلب" ضمن جدول الأعمال لمناطق خفض التوتّر، ففي ذلك دلالة على رهانات عميقة لدى الطرفين المذكورين، بإمكان استخدام "جبهة النصرة" و"إمارتها" في صراعات ومنافسات الحرب السورية. وهذا لا يغيب عن مدارك روسيا وحلفائها، وقد صرّح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بعد نقاشات مُستفيضة حول سوريا مع نظيره الأميركي ريكس  تيلرسون في مانيلا، بأن "الاتفاق على معايير منطقة خفض التصعيد في إدلب ليس بالأمر السهل". وقال في منتدى شبابي في مقاطعة فلاديمير الروسية ان أميركا "تقف صامتة وربما تشجّع بعض اللاعبين الخارجيين الذين لا يزالون يدعمون تنظيم جبهة النصرة" في سورية. وأضاف "نشتبه بأنهم يحمون (النصرة) كي يستخدموها بعد هزيمة داعش كجماعة ذات استعداد قتالي عالٍ لمحاربة الحكومة السورية والتغيير المرجو للنظام". (11 آب/أغسطس الجاري). ويتزامن ذلك مع تصريحات لـ أردوغان قال فيها إن مخابراته تواصل مباحثاتها مع المخابرات الروسية والإيرانية بشأن إدلب، مؤكّداً في الوقت نفسه رغبة بلاده في "إنهاء الخلاف القائم حولها في أسرع وقت ممكن". (11 آب/أغسطس الجاري)، ولا داعي لتخمين طبيعة الخلاف الذي يتحدّث عنه أردوغان، إذ تبدو الإجابة في تصريحات لافروف المذكورة قبلاً.

تواجه استراتيجية واشنطن في الشمال السوري تحدّيات مركّبة، ولا يقيناً حاداً تجاه المستقبل، ذلك أن تزايد التوتّر مع موسكو، سوف يؤدّي إلى تعطيل التفاهُمات القائمة حول سورية، ومن ثم احتدام المشهد في الشمال، ما يمثّل مخاطر كبيرة لقواتها وقواعدها هناك. وقد تفشل واشنطن في إدارة التوتّر بين حليفيها الرئيسين، أنقرة و"القوات الكردية"، اللذين قد يتبنيا خيارات أقل انسجاماً معها، وأقرب لموسكو وطهران. 

 

ومع تصاعُد الحملة المناهِضة للرئيس ترامب داخل الولايات المتحدة، وتزايد الاتّهامات الأميركية لروسيا بالتدخّل في الانتخابات الرئاسية، يبدو أن التحدّي الأهمّ لاستراتيجية واشنطن في شمال سورية، قد لا يكون الخلاف مع موسكو، وإنما التوافق معها!

Copyrights © al-elam.com

المصدر:   http://www.emediatc.com/?page=show_det&category_id=15&id=47292