وجهات نظر

سقط داعش .. فهل يرتفع الاسلام؟؟

نارام سرغون


الاعلام تايم 


أكاد أقول بأن نكهة النصر على داعش تملأ فمي وأن سواد عيني مليء بمناظر الرايات السوداء التي تبعثرت وتبددت.. ولكن قلبي حزين غطته العباءات والأوشحة السوداء فوق الأوشحة السوداء كما لو أنني أرنو الى مشهد كربلائي حزين ..


ليس أمرا قليلا أن يهزم داعش ولكن لاأدري إن كنا قد قتلنا الجاني متأخرين بعد أن قتل الضحية.. فالدواعش لم يجعلوا أوربا بنفورها من الإسلام أكثر مسيحية ولا البوذيين أكثر تبوّذا ولا الهندوس أكثر هندوسية ولا الملحدين أكثر إلحادا.. لكنهم بلا شك جعلوا المسلمين أقل إيمانا بإسلامهم وجردوهم من ذلك الشعور الطاغي بالثقة بدينهم الذي ورثوه منذ ألف وخمسمئة سنة ..


لاداعي للإنكار بأن الإسلام كله اهتز في قلوب المسلمين أنفسهم وسنجد أننا مقبلون في مرحلة مابعد داعش لا على عملية ترميم المدن والآثار بل على ترميم ألف وخمسمئة سنة من عمر التراث.. وعلى ترميم القرآن وترميم صورة النبي التي نالها مالم تنله على مر التاريخ وفي ذروة الصراع مع قريش.. نحن يجب أن نستعد للقيام بعملية ترميم عظيمة لألف وخمسمئة سنة سقطت أمامنا وانهارت أمام عيوننا المذهولة وكنا نرى أبراج الإسلام تنهار كما انهار برجا التجارة العالمي.. فلم تسقط تماثيل بابل والنمرود وتدمر ومعبد بل لكن ماكان يسقط هو الزمن المديد الذي كان يتمطى على مساحة هذا الشرق واسمه العصر الإسلامي .. لأن داعش لم تنسف التماثيل والحجر والنحت والقباب بل كانت تهدم قلوب المسلمين وتثقبها ويتسرب منها الايمان.. وكانت تهدم الأعمدة التي طالما وقفت عليها عقولهم وحضاراتهم مئات السنين.. حتى أن النبي الذي حطم التماثيل والأصنام يوما في مكة.. جاءت التماثيل التي هدمتها داعش لتهدمه وهي تقول هذا ماجنيته على الحضارة يامحمد .. فكل تمثال هوى أمام الكاميرات تحت المطارق كنت أرى النبي هو الذي يتكسر بتلك المطارق.. وكل عنق نحر بالسكاكين كنت أرى أن الدم لم يكن يتدفق منه بل كان يتدفق من عنق النبي.. فكم هو غريب أن يصبح النبي الذي حطم الأصنام هو الذي تهاجمه الاصنام لتحطمه..


تكسير الوثنية على يد النبي كان أعلن نهاية عصر الوثنية وبداية عصر الروح .. وتحطيم التماثيل في زمن داعش أعلن نهاية عهد الروح وبداية عصر المادة والجسد .. لأن المسلمين اكتشفوا أن الروح المخزنة في مخازن الف وخمسمئة سنة خرجت كما يخرج الوحش الحبيس.. وانتهت الروح عندما قتلت هذه الروح الأجساد ونحرت وقطعت.. وصار تحطيم التماثيل التي لم تعد تعبد يدل على أن الروح يمكن أن تكون شريرة وغبية..


هناك معركة مؤجلة يجب أن يخوضها المسلمون وهي يمكن تسميتها بإعادة الفتوحات ولكن ليس بالسيف ولا في معركة اليرموك ولا القادسية بل فتوحات في قلوب المسلمين وعقولهم في هذا الزمان التي وصلها الشك لأول مرة بأن الإسلام الذي قدمته لهم فرقة داعش في عروضها الدموية هو ماكان يختبئ بين دفتي قرآنهم ويسكن ما بين ضلوعهم.. فقد خرجت عملية البحث التاريخي والدراسات النقدية العلمية عن الإسلام وثغراته الفقهية من إطارها البحثي الأكاديمي بين النخب الى نقاشات العامة والى المقاهي وعلى الأرصفة بين الذين صاروا يتناقشون في مدى تطابق داعش مع سلوك النبي وروح الإسلام ..


أنا مسلم علماني ولاأحبذ نموذج الدولة الدينية وأدعو دوما الى تطوير البحث في التاريخ الإسلامي وأن يكون البحث في إطار الاكاديميات وليس في إطار الفضائيات ومجالس الوعاظ ونجوم التلفزيون من رجال الدين الذين يحبون الأضواء.. ولكنني أرى أن عملية البحث والتطوير الأكاديمي لاتعني أن نقضي على الجذور ونقلع الأوتاد بل الى إدراك خصائص الحوادث في زمانها وظروفها وثقافة عصرها والتعامل مع التراث على أنه يحوي النموذج السالب والمخزي والموجب وليس على أنه مليء بالدمويات.. لأن عملية إلصاق الفظاعات لاشك أن بعضا منها كان لأن هناك عملية تصفية حسابات مع النبي نهضت بعد وفاته.. لم يكن البيت الأموي بعيدا عنها لأنه الطرف الذي هزم وكان يبحث عن ثأره .. ولم يكن اليهود بعيدين عنها فجرت إعادة كتابة التاريخ النبوي بشكل لايبدو منسجما مع فكرة التغيير الاجتماعي والعدالة الاجتماعية ونظام فرض الضرائب بالزكاة لبناء الدولة والمجتمع التي جاء بها النبي كمشروع لذلك الزمان..


وأنا أستمع الى الكثير مما يقال من اتهامات تفجرت بعد نهوض داعش ولكنني لاأرى هذا الهجوم على الإسلام بريئا من محاولة تجريدنا كمجتمعات من إرثنا الحضاري فكريا وروحيا وتجريدنا من الشعور بالفخر والانتماء لحركة اجتماعية وروحية عظيمة في العالم القديم .. وتجريدنا من الانتماء لشخصية مركزية تاريخية وتصويرها على أنها كاذبة قاتلة مجرمة هي التي فقست الدواعش فقط.. واذا اهتز الانتماء الى الروح والدين صار الشخص يبحث عن انتماء آخر أقوى وأكثر رسوخا وانسجاما مع الروح والعقل والفطرة بلا ريب.. والبدائل موجودة ومتاحة جدا في أسواق الانتماءات التي يعد بها العالم وسوق النظريات الكبرى وسوق الانترنت الكبير.. وستكون عملية الاقتحام الثقافي الى الأماكن التي يخليها الإسلام في القلوب والعقول تدريجيا ليست لتطوير المسلمين بل لإحلال ثقافة الذوبان مع الآخر القادم وقبوله كمعلّم وسيد مطاع وأستاذ.. تماما كما حدث مع الشيوعية التي انسحبت وأخلت الساحات لنظريات السوق الرأسمالية.. وكما حدث بعد الهزائم المتتالية للقومية العربية التي تراجعت لصالح العصبيات والقطريات الضيقة.. وهنا سيكون الإسرائيليون وغيرهم جاهزين للاستيلاء على الأرض التي صارت بلا أوتاد ثقافية وروحية وقومية.. وتدخل فيها ميوعة الواقعية والانتهازية والأنانية والمصلحة.. بل والانتماء الى العصر اليهودي الجديد الذي سيحكم الشرق كما يفعل أهل الخليج المحتل هذه الأيام الذين فقدوا كل أوتادهم الثقافية والفكرية والمالية وفقدوا أهم الأوتاد التي كانوا يتمسكون بها وهي مصر الناصرية وبغداد العربية وكادوا يفقدون آخر الأوتاد في دمشق.. ولذلك فإن اقتلاع الأوتاد الثقافية والروحية وغيرها مهما كان بدوافع التعقل وإعادة النظر والعلمانية والتطوير فإنه يجب أن يكون قائما على دراية كاملة بالقضية وأن يكون حذرا وأن يخشى عملية خلع الرداء الذي ارتديناه لخمسة عشر قرنا في هذه العاصفة.. وهنا لا أدعو الى عدم التجديد في الفكر الإسلامي ولكنني أخشى من عملية الانسلاخ السريع والقفز الانفعالي ..


وهذه الدعوة لإعادة الفتوحات في القلوب والأرواح لايمكن أن تنجح اذا اقتصر الأمر على استنكار داعش فقط ومحاولة هزيمتها لأنه سيكون عملا ناقصا اذا لم تتم عملية استئصال النصرة والقاعدة والاخوان المسلمين.. لأن هذه التنظيمات تتبادل الاكسجين.. وما داعش الا أحد الرؤوس التي فتكت بالايمان المشرقي لأن هذا التنين الديني كانت له رؤوس ثلاثة هي داعش والنصرة والاخوان المسلمون وبقية المخالب من الفصائل الإسلامية التي تبرعمت على جسد التنين ..


سقط الرأس الأول .. لايزال التنين برأسين.. النصرة.. والاخوان.. لأن كل الرؤوس تشرب من جسد واحد.. ولايمكن إعادة الفتوح الإسلامية في القلوب والعقول المسلمة الا بقتل هذا التنين .. الذي يسترخي جسده الكبير في السعودية وينبض قلبه في قطر وتتنفس رئتاه في تركيا ..


السقوط العسكري لهذا العصر الإرهابي ليس نصرا مالم نقم بعملية الترميم الصحيحة وبناء الانسان المشرقي الوطني العلماني الذي لايخجل من تاريخه ومن انتمائه.. وهو ليس مجرد شخص اذا شرحنا جسده يسيل منه عناقيد وتفاح ونظريات غربية.. بل يسيل منه البخور والمسك والجمر والعنبر.. ويسيل منه مزيج الآذان ورنين أجراس الكنائس..

Copyrights © al-elam.com

المصدر:   http://www.emediatc.com/?page=show_det&category_id=15&id=46616