وجهات نظر

الكل واحد والواحد هو الكل

د. بثينة شعبان


كتبت المستشارة الخاصة في رئاسة الجمهورية بثينة شعبان في صحيفة الوطن العمانية تحت عنوان "الكل واحد والواحد هو الكل":

 

إذًا الموضوعان متكاملان: خوض الحرب ضد روسيا في أوكرانيا وإثارة الفتن في الدول التي تستعصي على الهيمنة الغربية وتنحاز إلى محاولات تغيير النظام العالمي إلى نظام متعدد الأقطاب وبإرادة دولية تمثل فعلًا البشرية وليس فقط أصحاب السحنة البيضاء والعيون الزرقاء.

 

“الكل واحد والواحد هو الكل” هذا أهم ما قالته ليز تروس رئيسة وزراء بريطانيا في كلمتها أمام الجمعية العامة للأمم المُتَّحدة ملخِّصة بهذه العبارة سر قوة الغرب وسر استمرار هيمنتهم على الشعوب وقدرتهم على نهب مقدراتها من خلال الهيمنة والحروب ونصب حكومات عميلة والتحكم بمصائرهم على مدى العقود المنصرمة.


التحالفات بين الدول الغربية وخصوصًا دول الناتو وكندا وأستراليا واجتماعهم على كلمة واحدة في ما يتعلق بشن الحروب وزعزعة استقرار الشعوب والتدخل في شؤونها، ومحاولة إلغاء قرارها المستقل إلى أن تصبح تابعة لهم، هذا هو سرُّ ادعاءاتهم على مدى عقود بأنهم يمثلون “الأسرة الدولية” وأنهم هم الوحيدون الذين يحق لهم أن يتكلموا باسم العالم بأسره، الحق الذي لا تمتلكه أي دولة أو مجموعة أخرى في رأيهم.

 

ولكن ما حدث في العقدين الأخيرين وبعد الحروب الوحشية بانتهاك واضح للقانون الدولي التي شنتها الولايات المُتَّحدة وحلفاؤها على أفغانستان والعراق وليبيا، أو الحروب بالوساطة التي شنها الغرب وأعوانه على سوريا حرب الحصار والمقاطعات على فنزويلا وإيران ومؤخرًا روسيا، وبعد انكشاف إلى حدٍّ ما دور الإعلام الغربي المضلِّل في دعم هذه الحروب وتغطية الجرائم الوحشية والتعذيب التي ترتكبها الجيوش الغربية ضد المدنيين العزَّل، سواء من خلال ويكيليكز أو من خلال وسائل التواصل الاجتماعي وبجهود المخلصين والطامحين إلى كشف الحقيقة؛ بعد كل هذا الخرق للاحتكار للصوت الواحد بدأ العالم برمته يضيق ذرعًا بهذا الأسلوب وبأدوات الهيمنة وبالسردية الغربية المنافقة التي لا علاقة لها بالواقع سواء في الغرب أو الشرق. وعلَّ المتضرر الأكبر مؤخرًا من الخطوات الغربية التي تم اتخاذها وخصوصًا منذ عام 2014 والمستهدف الأكبر من قبل الغرب هو روسيا الاتحادية مما قاد إلى هذه العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، حيث أصبح واقع الحال اليوم يهدد باندلاع حرب مباشرة وربما نووية بين الغرب وروسيا على الأرض الأوكرانية.

 

ما نشهده اليوم هو أن روسيا والجيش الروسي في أوكرانيا يخوضون معركة ضارية نيابة عن العالم برمَّته المتضرِّر من هذه الهيمنة الغربية والتي استمرت منذ الحقبة الاستعمارية وما ارتكب فيها من جرائم إبادة ونهب للثروات وتعززت هذه الهيمنة بعد الحرب العالمية الثانية. ولكن وبعد أن بدأت الولايات المُتَّحدة تتحدث عن نظام على أساس قواعد لا أحد يعرف ماهيتها، وبعد أن ضربت عرض الحائط بقرارات الشرعية الدولية، وأفرغت الكثير من المنظمات الدولية من مضمونها معتمدة موقفًا منافقًا من حقوق الإنسان والانفصام الكامل بين السردية الغربية وما تقوم به الدول الغربية فعلًا على أرض الواقع ضد البلدان والشعوب الأخرى وإلى حدٍّ ما ضد فئات معينة في بلدانها بسبب العنصرية المتجذرة في التفكير الغربي، لم يعد العالم قادرًا على التزام الصمت.

 

ولكن المشكلة التي تواجهها البلدان والشعوب المتضررة من الهيمنة الغربية لم تؤسس لآليات عمل ولتحالفات ولشراكات حقيقية قادرة على تأدية الدور نفسه الذي تؤديه التحالفات الغربية في استهداف هذه الدول والشعوب. وهنا يكمن الضعف الأساسي في معالجة الوضع الدولي القائم والخروج من هذا المأزق الخطير بتغيير جوهري يحقِّق الأهداف الكونية المرتجاة من هذا التغيير وهنا تكمن نقطة الضعف الأساسية. أضف إلى هذا أن الدول المتضررة من الهيمنة الغربية لا تمتلك الآلة الإعلامية الضخمة المركَّزة والموجَّهة والتي تنطلق بصوت تحريري واحد من أقصى الغرب إلى أدناه لدى أي مفصل يهدد سيادة الغرب على العالم وسيطرته على مصادر ثرواته؛ فبالرغم من ادعاء الغرب أن لديه حرية إعلام نلاحظ لدى كل مفصل مهم أن الإعلام الغربي يتحدث بصوت واحد منطلقًا من استراتيجية واحدة، وإن اختلفت التكتيكات، وبغية الوصول إلى هدف واحد.

 

إذًا يقوم اليوم الغرب بكل تحالفاته، من الناتو إلى جي7 إلى أواكس، بمحاربة روسيا على أرض أوكرانيا ومدِّ أوكرانيا بالمستشارين والأسلحة المتطورة والمرتزقة وعلى حساب أمن ولقمة عيش واستقرار ومصلحة شعوبه وخصوصًا في أوروبا؛ وذلك لأنه يعد أن المعركة التي يخوضها مع روسيا اليوم هي معركة وجود بالنسبة لمصالح الفئات الرأسمالية المتصهينة الحاكمة في الغرب وقدرتها على التحكم بمصائر البشرية. وقد تحدث معظم المسؤولين الغربيين في الجمعية العامة عن هذه المعركة مع روسيا بوصفها حربًا بين النظم “الليبرالية الديمقراطية” من جهة و”الديكتاتوريات” من جهة أخرى، ولكنهم يعرفون حق المعرفة أنها حرب بين الهيمنة الغربية التي تحمل كل صفات الاستبداد والديكتاتورية والتي تريد للقطب الواحد أن يستمر كي تمضي قدمًا في شن الحروب ونهب الثروات وتسخير البشر والموارد لتراكم الثروات الأسطورية للفئة المتصهينة الحاكمة في الغرب، وبين الدول والشعوب الطامحة للاستقلال الحقيقي والكرامة المتساوية ولتغيير هيمنة الغرب على مقدراتها وقرارها.

 

إنها فعلًا معركة وجود؛ لأن انتصار روسيا في هذه الحرب (والذي ردَّد مسؤولون غربيون من ضمنهم أمين عام حلف الناتو ووزير الخارجية الأميركي أن هدفهم الأساسي من السخاء في دعم أوكرانيا هو منع انتصار روسيا) سيُشكِّل فرصة لها وللصين ولدول البريكس ومنظمة شنغهاي أن يشكلوا تحالفًا اقتصاديًّا أمنيًّا سياسيًّا عسكريًّا في مواجهة التحالفات الغربية وعند ذلك سيتغير العالم مرة وإلى الأبد. لدى حدوث هذا سوف يحدُّ وإلى مدى بعيد من قدرة الغرب المتصهين على نهب ثروات الشعوب والتحكم بمصائر بلدانهم ومستقبل أجيالهم، وسوف يرسي نظامًا عالميًّا جديدًا قائمًا على الحرية والكرامة المتساوية للدول والشعوب وعلى صيانة الحقوق لكل إنسان في العالم وليس للصهيوني المحتل على حساب الفلسطيني، أو الأميركي على حساب الأفغاني والعراقي، وغيره أمثلة لا تحصى عن نفاق الغرب وازدواجية معاييره وعنصريته في التعامل مع العرب والآسيويين والأفارقة.

 

كي يحاول ضمان عدم خسارة هذه الحرب الوجودية، يتبع الغرب مسارًا ذا شقين: الشق الأول هو دعم أوكرانيا بكل ما يملك من مال وسلاح وعتاد ومرتزقة في هذه الحرب؛ لأنه ـ كما أعلن ـ يريد منع روسيا من الانتصار، ولأنه يريد الاستمرار بنهب الشعوب والدول والتحكم بمقدراتها. والمسار الثاني هو إثارة الفتن والقلاقل الداخلية في البلدان التي تشارك روسيا والصين توجههما في تحويل العالم إلى عالم متعدد الأقطاب وترفض الهيمنة الغربية مثل إيران وفنزويلا وسوريا واليمن، وهذا ما تقوم به الولايات المُتَّحدة في أميركا اللاتينية والشرق الأوسط. هذه التدخلات المخططة والمدروسة والممولة من قبل الغرب وآخرها ما أسموه “بالربيع العربي” تعمل على تأخير تقدمنا وازدهارنا واستهلاك مواردنا في الحروب أو نهبها أمام أعين العالم، وتستكمل هذه التدخلات العسكرية بالوساطة من خلال عقوبات وحصار يقوّض فرص الازدهار والعمل والاستقرار، ويدفع بشباب هذه البلدان إلى قوارب الموت هربًا من الواقع الذي اختلقته ونفذته عن سابق تصميم الدول الغربية وعملاؤها لتقويض قدرة هذه البلدان على متابعة مسارها المستقل في الرأي والعمل والنهج والسياسة.


إذًا الموضوعان متكاملان: خوض الحرب ضد روسيا في أوكرانيا وإثارة الفتن في الدول التي تستعصي على الهيمنة الغربية وتنحاز إلى محاولات تغيير النظام العالمي إلى نظام متعدد الأقطاب وبإرادة دولية تمثل فعلًا البشرية وليس فقط أصحاب السحنة البيضاء والعيون الزرقاء. وفي الواقع فإن الحروب التي يشنها الغرب على شعوبنا وبلداننا متعددة الأوجه قد تكون الحرب العسكرية والحصار الاقتصادي من أبرز نماذجها ولكن حروب المياه وحروب البذار وحروب الأسمدة وحروب الأدوية وحروب التعليم، وحروب الأوبئة وحروب الاختراقات الأمنية بشكلٍ ما يعرف “بالثورات الملوَّنة” أو “داعش” أو “الربيع العربي”، كلها حروب قائمة بدرجات متفاوتة لمنع بلداننا من الإمساك بناصية التقدم والابتكار والازدهار.

 

أما ما يتوجب على الشعوب المتضررة فعلًا من الهيمنة الغربية والطامحة لتغيير قواعد النظام الدولي لما فيه خير وراحة وسعادة البشرية فعله فهو أن تجترح آليات عمل واستراتيجيات تواجه الاستراتيجيات الغربية وآليات عمله. على هذه الدول أن تنشئ تحالفات على قواعد مشابهة للتحالفات الغربية بحيث يكون “الكل واحد والواحد هو الكل” وأن تواجه السردية الغربية المنافقة، التي أصبحت مضحكة للمفارقة الشديدة بينها وبين الواقع المعاش، بسردية أخرى معبرة عن الحقيقة والواقع.

 

التغيير العالمي المطلوب كبير والفئات الحاكمة المتصهينة في الغرب تدرك جيدًا خطورته عليها وعلى مصالحها الحالية والمستقبلية ولذلك لا بُدَّ من أن تصل التحالفات الطامحة إلى تغيير القواعد العالمية وبناء نظام دولي جديد تشاركي وعادل للجميع إلى القناعة بأن المعركة بكل أوجهها وجودية للجميع وليس فقط لروسيا من جهة وللغرب من جهة مناقضة.

Copyrights © al-elam.com

المصدر:   http://www.emediatc.com/?page=show_det&category_id=15&id=88584