وجهات نظر

الهند في عيدها الخامس والسّبعين

الدّكتور وائل عوّاد


عندما عقدتُ العزم على الدّراسة في الهند في أوائل الثّمانينات، فوجئتُ بردود الفعل بين الأصدقاء والأحبّاء وتساؤلاتهم: “الهند! لماذا اخترت الهند بالذّات؟ أليست الهندُ بلدَ العمالة والفيضانات والطّاعون والملاريا وغيرها من الأوبئة، ناهيكَ عن الفقر؟

لم أكن أملكُ الكثير من الإجابات، سوى أنّني شرقيُّ الهوى، فلم تزد معرفتي بالهند عن أيّ مواطنٍ عربيٍّ يتابع الأخبارَ التي تتناقلها وكالات الأنباء، والتي كانت معظمها تتناولُ الأمراضَ والكوارثَ والأفلامَ الهنديّةَ، بوليوود.

وكانت الأفكار التي تراود ذهني حينئذٍ هي أنّ الدّراسة في الهند باللّغة الإنكليزيّة، فهي من الدّول الآنغلوفونيّة، وأنّني سأعود إلى البلاد بعد التخرّج.

كانت الحياةُ في الهند بسيطةً بالنّسبة لدولةٍ نالت استقلالها عام 1947م وتحرّرت من براثن الاحتلال البريطانيّ منهكة القوى منهوبة الثّروات بأكثر من 70 ترليون دولارٍ أمريكيٍّ، وغدت مقسّمةً بعد انفصال باكستان عنها .

تّبنت الهندُ الحياةَ الدّيمقراطيّةَ والتعدّديّةَ الثّقافيّةَ والعرقيّة والإثنيّة والدّينيّة لترسمَ هذه التعدّديّة صورتها الفسيفسائيّة وتغدو مصدرَ قوّتها. وقد عزّزت الهندُ على مدى العقود الماضيةِ من دور مؤسّساتها الدّيمقراطيّة لتصبح أكبر ديمقراطيّةٍ في العالم، ووسّعت من إنتاجها الصناعيّ في مجالاتٍ عديدةٍ منها العلوم والتكنولوجيا والفضاء والبحوث العلميّة، وبدأت بالثّورة الخضراء للاعتماد على الذّات وتحقيق الأمن الغذائيّ.

كما دأبت الهند على مدى العقود الماضية على تحسين مستوى الحياة المعيشيّة والصحيّة ليصبح متوسّط العمر فيها 70 عاماً بعد أن كان 32 عاماً إبان الاستقلال. وسارَعت بالقضاء على الأمراض واستئصال شلل الأطفال وتوفير التّعليم والعدالة الاجتماعيّة وتعزيز قدراتها العسكريّة والدّفاعيّة لحماية البلاد، وأجرت أوّل تجربةٍ نوويّةٍ عام 1974 لتصبح سادس دولةٍ نوويّةٍ في العالم، تلتها خمس تجارب نوويّةٍ في صحراء ولاية راجستهان .
لقد قطعت الهند أشواطاً طويلةً لترتقي الى مستوى الدّول المتحضّرة، وأصبح النّموّ الاقتصاديُّ على مستوى 6.5% وسيستمر لعقدٍ قادمٍ على الأقلّ في الوقت الذي مازالت العديد من الدول المتقدّمةُ عاجزةً عن الخروج من الانحسار الاقتصاديّ.

وفي حقيقة الأمر، ما كانت هذه الإنجازات لتتحقّق لولا الأسس المتينة في بناء الدّولة ودعم سلطة القانون واحترام الدّستور وحرّيّة الإعلام وحريّة الفكر والاعتقاد والإيمان والعبادة.

يحقّ للشّعب الهنديّ أن يفخرَ بما حقّقَ من إنجازاتٍ على مدى الخمسة والسّبعين عاماً، إذ يتربّع الهنود اليوم على مقاعد كبار الشّركات العالميّة كرؤساء تنفيذيّين أمثال شركات ميكروسوفت وبيبسي وجاغوار ولاند روفر وغيرها. ولقد تمّ رفعُ العلمَ الهنديَّ على سطح القمر، إذ كانت قد أطلقت أوّل قمرٍ صناعيٍّ عام 1975م، وتُعدُّ الهند اليوم منصّةً لدول العالم لإطلاق الأقمار الصناعيّة بسبب التقدم الذي حقّقته في مجال الأبحاث الفضائيّة والتّركيز على أهميّة تكنولوجيا الفضاء.

ومن المتوقّع أن يبلغ حجم الاقتصاد الهنديّ حوالي 2.4 تريليون دولارٍ هذا العام. كما ارتفع دخل الفرد في البلاد من 425 دولاراً أمريكيّاً إلى حوالي 1800 دولارٍ أمريكيٍّ الآن ؛ ونمت الطّبقة المتوسّطة بشكلٍ ملحوظٍ، وخرج الملايين من براثن الفقر في هذه السّنوات الخمسٍ وعشرين لتصبح سادس أقوى دولةٍ اقتصاديّةٍ في العالم وربّما ستغدو ثالث دولةٍ بحلول 2030. وأصبحت الهند من أوائل الدّول للاستثمار، وسارعت دول العالم للاستفادة من الفرص التي توفّرها الهند للمستثمرين الأجانب، حيث بدأت ببرنامج “صُنِعَ في الهند” وركّزت على الإبداع والتميّز والمهارات، وهذا ماتعهّد به رئيس الوزراء في خطابه التّاسع للأمّة بأنّ بلاده سوف تصبح من الدّول المتقدّمة خلال السنوات الخمس وعشرين المقبلة من خلال النهوض معاً كأمٍّة واحدةٍ ومواجهة التحدّيات والصعوبات للارتقاء بالهند إلى مكانتها العالميّة.

وتعهّد رئيس الوزراء بالقضاء على الفساد والرشاوى ودفع عجلة النموّ والتطوّر. وتبرز الهند اليومَ أكثر ثراءً وقوّةً واعتماداً على الذّات وتحتلّ أهميّةً عالميّةً أكبر من النّاحية الاستراتيجيّة والاقتصاديّة .

ومازال أمام الهند تحدّياتٌ وصعوباتٌ جمّةٌ مثل توفير مياه الشّرب وفرصٍ للعمل ومعالجة مشاكل التّلوّث البيئيّ والمناخ والاستفادة من التّقنيّات الجديدة وإعطاء المرأة دوراً أكبر في صناعة القرار و المساهمة في بناء المجتمع، هذا عدا عن محاربة الإرهاب والتطرّف والتشدّد الدّينيّ والنّعرات الطّائفيّة التي تهدّد مستقبل التّعايش السّلميّ والحريّات، بعد أن ارتفعت حدّة خطاب الكراهية والحقد في العديد من المدن والقرى .

يبلغ الْيَوْمَ عدد سكّان الهند أكثر من مليارٍ وثلاثمائةٍ وخمسين مليون نسمةٍ، وسوف تتخطّى الصّين العام المقبل بالتّعداد السّكانيّ، ويحتفل الهنود معاً بعيدٍ وطنيٍّ واحدٍ والعلم الهندي يرفرف من على أسطح المنازل والشّرفات والأرصفة والشّوارع، وهذا فخرٌ يستحقّونه…ُ
خمسةٌ وسبعون عاماً والهند أقوى ممّا كانت عليه، موحّدةٌ، ونحن في عالمنا العربي مازال عمرُ وعليٌّ يتصارعان على الأولويّة ونتفاخر بمنتجات الآخرين وإنجازاتهم، ولم نحقّق شيئاً ما نفتخر به، ومازلنا نعيش على هامش التّاريخ وفقدنا احترام العالم المتمدّن لنا …لا يمكننا حتى اختصار إنجازاتنا في القتل والغدر والخيانة والتّآمر وتدمير بَعضنَا البعض…

الغريب في الأمر أنّ البعض يستهزأ بالهنود ويعتبر نفسه أكثر ذكاءً منهم ! وهنا دعونا نتساءل: ماذا لدينا؟ وماذا حقّقنا؟ وماذا قدّمنا للبشريّة والإنسانيّة؟ أيدينا ملطّخةٌ بدماء بَعضنَا البعض.

اما آن الأوان لوقفةٍ مع الذّات والعمل لاتّخاذ موقفٍ واحدٍ نفتخر به كعربٍ؟

أفيقوا واضربوا وجوهكم أمام المرآة في الصّباح والمساء لعلّ الخلايا النّائمة تصحو من غيبوبتها وندرك عندئذٍ أنّه من حقّ أطفالنا ان يعيشوا حياةً أفضل من حياتنا بعيداً عن الآفات الشّريرة المتأصّلة في أحشاء العديد منّا…والى حينه دعونا نحسد الهنود ونهنّئهم بما حقّقوه ونتعلّم منهم بعض الأشياء الجميلة على الأقلّ مثل التّسامح والتعايش السّلميّ والدّيمقراطيّة كبدايةٍ…

مباركٌ للشّعب الهنديّ احتفاله بالاستقلال على أمل أن نتحرّر نحن أيضاً من معتقداتنا والرّواسب البالية فينا أوّلاً

Copyrights © al-elam.com

المصدر:   http://www.emediatc.com/?page=show_det&category_id=15&id=87493