وجهات نظر

هذه الفقاعة تحت الجلد

عبد المنعم علي عيسى


الاعلام تايم _ الوطن

 

كان من الممكن النظر إلى الزيارة التي قام بها قائد القيادة الأميركية الوسطى الجنرال كينيث ماكينزي إلى عين العرب يوم الاثنين قبل الماضي في 22 من تموز الجاري على أنها خطوة متقدمة في المباحثات التي استمرت لثلاثة أيام تزامنت، كما تلت، هذا التاريخ بين المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالن والمبعوث الأميركي جيمس جيفري في أنقرة والتي كان محورها الأساس هو البحث في قيام «المنطقة الآمنة» التي لا تزال أنقرة تصر على أن تكون تحت سيطرتها لوحدها.


إلا أن التصريحات التركية الجازمة، والأميركية المخففة، تؤكد أن المباحثات سابقة الذكر قد فشلت تماماً، فوزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو كان قد قال في أعقاب انتهائها إن الاقتراحات الأميركية الجديدة حول «المنطقة الآمنة» لا تلبي طموح تركيا بل زاد في ذلك اتهامه للأميركيين بالمماطلة، أما من الزاوية الأميركية فإن المتحدث باسم الخارجية الأميركي مايكل لافاللي كان قد أكد أن الحوار مع أنقرة سيبقى مستمراً لمعالجة مخاوفها الأمنية «المشروعة» في الشمال والشرق السوريين، وإن كان قد أشار إلى وجود توافق حول «خطة الطريق» الخاصة بمنبج التي توصل إليها الطرفان صيف العام الماضي، قبل أن يحسم الرئيس التركي «الزئبقية» التي امتهنها الطرفان في إظهار ما جرى ليقول يوم الجمعة الماضي 26 تموز الجاري أمام اجتماع حزبي بأنه سيدمر مواقع الإرهاب في مناطق شرق الفرات مهما تكن نتائج المباحثات الجارية مع الأميركيين بشأن تلك المناطق قبل أن يضيف: أن «الإرهابيين» سيدفنون هناك تحت التراب.


مباحثات كالن جيفري سابقة الذكر هي الأهم من بين تلك التي أجراها الأخير مع الأتراك بهذا الخصوص على امتداد الأشهر الماضية، فهي الأولى ما بعد إعلان أنقرة يوم 12 تموز الجاري عن وصول منظومة «إس400» الروسية إلى الأراضي التركية، بمعنى أنها جاءت بعد أن وقع المحظور الأميركي الذي جهدت واشنطن قدر ما تستطيع الحؤول دون وقوعه، ولذا فإن من المؤكد أن مناخات تلك المباحثات كانت تقوم على أساس أن ما جرى قد جرى أو هو أضحى من الماضي والواقعية تقتضي تجاوزه انطلاقاً من أنه بات أمراً واقعاً ومن العبث الخوض فيه، والراجح أن واشنطن تتعاطى مع الأمر بناء على هذي القاعدة الأخيرة كواقع لا يمكن تغييره على المدى القريب، الأمر الذي يفسر سعيها نحو إنضاج تفاهمات مع أنقرة حول الشرق السوري على الرغم مما تبشر به مناطق تكون الأعاصير الأميركية والتي ستكون في جزئها الأهم متجهة في المرحلة المقبلة نحو الشواطئ التركية بل بدرجة أكبر مما تتجه صوب الخليج العربي في هذه المرحلة، ولربما المؤشرات إلى ذلك عديدة لكن مع لحظ فوارق في طبيعة تلك الأعاصير تبعاً لتوجهاتها، ففي الوقت الذي تطغى فيه على تلك المتجهة نحو الخليج نكهة «الضجيج» التي ابتعدت بالتأكيد في أسابيعها الأخيرة عن أن تكون نوعاً من تهيئة مفترضة للرأي العام الأميركي والعالمي لتوجيه ضربة عسكرية ضد إيران، فإنها تكتسب في حالتها الأولى، أي المتجهة نحو الشواطئ التركية، نكهة هي أقرب لتكون «كبساً للملح على الجرح» المقدر له أن يؤسس لحال من الاحتقان الأميركي سوف تجد تلاقيات لها بالتزامن مع تحولات تركية داخلية ليست واشنطن ببعيدة عن إنضاجها.


باتت النظرة الأميركية لما يجري في الشرق السوري محكومة بأمر أساسي هو طبيعة المواجهة الأميركية الإيرانية الممتدة من الخليج العربي وصولاً إلى الشرق ومعه باقي مناطق الجغرافيا السورية، ومؤكد أن الهم الأميركي الأول في سورية اليوم بات يتمحور حول سبل مواجهة الوجود الإيراني فيها تمهيداً لتحجيم الدور الإقليمي الإيراني على امتداد المنطقة، وهي في هذا السياق تناور على محورين اثنين أولاهما بث الروح في فكرة إرسال قوات متعددة الجنسيات إلى المناطق التي تسيطر عليها ميليشيات «قوات سورية الديمقراطية – قسد» بعدما أعربت باريس ولندن في وقت سابق عن استعدادهما للقيام بأداء مهام من هذا النوع، ولربما ستزداد حدة الاندفاعة البريطانية في اتجاه كهذا بعد الإعلان في لندن عن فوز بوريس جونسون بزعامة حزب المحافظين وبرئاسة الوزارة البريطانية يوم الأربعاء الماضي تبعاً لميول الرجل وتصريحاته الاستباقية التي يغلب عليها النزعة الهجومية ضد دول المنطقة والإسلام عموماً باعتباره «الوصفة» التي لا شفاء منها لتخلف شعوب المنطقة وفق رؤياه التي عبر عنها مراراً، وثانيهما مسعى حثيث كان قد بدأ منذ محاولة احتواء الصراع الذي دار ما بين ميليشيات «قسد» وعشائر عربية في مناطق دير الزور الشرقية منذ أيار الماضي، لكنه تبلور مؤخراً في الاجتماع الذي احتضنه أحد فنادق العاصمة الأردنية عمان في منتصف تموز الجاري، وقد ضم مسؤولين أميركيين وبريطانيين وفرنسيين إضافة إلى شخصيات في المعارضة السورية قالت تقارير: إن جلهم من حلب ودير الزور، وفيه كانت المطالب الأميركية من هذي الأخيرة تتركز على تقديم بيانات عسكرية وأمنية دقيقة عن حجم وأماكن الحضور الإيراني على الأرض السورية، ومن ثم الطلب إليهم وضع تصوراتهم عن أنجع السبل لمواجهة هذا الحضور، وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى أن الدخول السعودي الذي جاء ليكرس المسعى الأميركي الأخير الذي مثلته زيارة وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج ثامر السبهان إلى مناطق دير الزور الشرقية وعقده اجتماعان فيها الأول في حقل العمر النفطي والثاني في مدينة البصيرة أواخر أيار الماضي قد جاءت بنتائج عكسية وهي أفضت إلى توتر العلاقة ما بين «قسد» و«مجلس دير الزور المدني» ففي أعقاب تلك الاجتماعات أوعزت الأولى إلى كل الحواجز والنقاط العسكرية التابعة لها بوجوب إلغاء المهمات الأمنية وبطاقات العبور الصادرة عن المجلس ووقف التعامل معها فوراً، ناهيك عن وجود مؤشر مهم آخر يؤكد أن الرهان السعودي على إمكان زج «قسد» بقواتها في مواجهة الوجود الإيراني استجابة لمسعى السبهان سابق الذكر يضع في حساباته أن احتمالات النجاح فيه هي صفر تبعاً لحسابات خاصة بالأولى، الأمر الذي يفسر سعي الرياض إلى بث الروح في ميليشيا «قوات النخبة» العائدة إلى «تيار الغد» بزعامة أحمد الجربا شديد الالتصاق بالرياض والسياسات التي تتبناها على الأرض السورية.


في حسابات السياسة يجب أن يجيب صانع القرار السياسي الكردي على سؤال هو الأهم: هل تتحدد السياسات عبر «الحقوق» أم عبر «الوقائع»؟ وبالعودة إلى السياسات المتبعة من القيادات الكردية لتخمين إجابتهم عن هذا السؤال الأخير يمكن التأكيد أن رؤيتهم للأزمة ليست نابعة من «حقوق تاريخية» ليست موجودة أصلاً، بل لا حتى من «حقوق ثقافية» لا تتيحها الأعراف والمواثيق الدولية إلا شريطة أن يعلن المكون الذي يطالب بها عبر قواه وأحزابه وتياراته عن تخليه عن أي مشروع سياسي يمس بجغرافيا الوطن الذي يعيش فيه، وبالعودة إلى الشق الآخر، أي الوقائع، يمكن القول إنها تتحدد عبر عاملين اثنين هما توازنات القوة وهي بالتأكيد ليست في مصلحة الأكراد والتوازن الهش القائم مؤقت، أو عوامل المصلحة وهذي للأسف ليست في مصلحة الأكراد ولا في مصلحة السوريين أيضاً.


مما سبق يمكن القول إن المحاولة الكردية في الشرق السوري هي أشبه بـ«ثرثرة على ضفاف الخابور والفرات» وهي تعبير أكيد عن حالة تيه وفقدان للبوصلة شبيهة بتلك التي عاشها الفلسطينيون في الأردن خريف العام 1970 وفي لبنان ربيع العام 1975 عندما كان الظن أن ما هم مقدمون عليه سيشكل موطئ قدم متقدماً نحو إقامة دولتهم على أرض فلسطين، لكنها في مقلب آخر تسجل تحولاً انحرافياً يستحق التوقف عنده فالأكراد، وتحديداً منهم عناصر حزب العمال الكردستاني، يسجل لهم التاريخ تصالب دمائهم مع نظائرها في الجيش السوري والمقاومة الوطنية اللبنانية في قلعة الشقيف حزيران 1982 إبان تصديهم للغزو الإسرائيلي المدعوم أميركياً للبنان، لكن الحاضر اليوم يسجل أنهم باتوا يقفون في خندق الغزاة أنفسهم بل بيدق يسهل تحريكة متى وأين اقتضت مصالح هؤلاء؟


فشلت كلتا المحاولتين واكتشف الفلسطينيون خطأ الفعل لكن بعد أن ترك هذا الأخير فقاعة تحت الجلد وتشققات كانت بعيدة الأثر على امتداد جبهات الداخل وعلى جبهات الصراع كافة، ما أشبه التيه الكردي اليوم بنظيره الفلسطيني بالأمس!
 

Copyrights © al-elam.com

المصدر:   http://www.emediatc.com/?page=show_det&category_id=15&id=62487