وجهات نظر

نزعة الاستعانة بالشيطان لدى الأكراد السوريين

عبد المنعم علي عيسى


الاعلام تايم _ الوطن

تقتضي الواقعية القول إن الزلازل والبراكين التي تصيب المجتمعات كثيراً ما تكون فرصة لتبيان مدى تماسك، أو هشاشة، المكونات المجتمعية والسياسية للكيانات التي تصيبها تلك الحالة، حتى في المراحل المفصلية غالباً ما تسجل الأحداث وتواترها حالة فرز ذات دلالات مهمة على مستوى الأفراد والأحزاب والتيارات السياسية بشكل عام، وهي كلما ازدادت حدتها أو ضراوتها نشطت حركة الغربال لكي تستطيع التعامل مع كامل المكونات الواردة إليها لتحديد نوعياتها وفرزها إلى زمر متناسقة.


يستنسخ الأكراد السوريون اليوم سيناريوهاً شهده شمالي العراق منذ ستينيات القرن الماضي وفيه ابتنى الملا مصطفى بارزاني علاقة وطيدة مع تل أبيب منذ عام 1965، آنذاك كانت تلك العلاقة تأتي في سياق تلاقي مصالح إقليمية معقدة أيضاً، مثلها توجه جديد لدى الرياض التي كانت ساعية في تقدير استباقي لنخر القوة العراقية النامية آنذاك والتي كانت ترى فيها قوه ضاغطة على دورها الإقليمي الماضي في ركب هو على النقيض مما كان يمضي فيه محور دمشق القاهرة الذي كانت بغداد تمضي في أحايين عدة فيه، الأمر الذي دفع بها، أي بالرياض، نحو دعم حركة بارزاني الانفصالية بشتى أنواع الدعم، وكان طلب العلاقة مع تل أبيب يعود إلى قناعه لدى هذا الأخير بأن أمراً من هذا النوع كفيل بشد واشنطن نحو خطوات خادمة لمشروعه، ثم مضى ذلك السيناريو نحو نصب الأفخاخ لبغداد بدءاً بدخول الحرب مع إيران بأيلول 1980 مروراً بغزو الكويت في آب من عام 1990 ثم وصولاً إلى تصوير نظام صدام حسين على أنه الشر المستطير تمهيداً لإسقاطه الأمر الذي حدث في نيسان 2003.


فيما بين المحطتين الأخيرتين، استفاد الأكراد في شمالي العراق من خطأ إستراتيجي فادح ارتكبته القيادة العراقية عبر الفخ الثاني، الذي تلاه قيام منطقة حظر جوي فرضته قوات التحالف الدولية بقيادة الولايات المتحدة فوق الشمال، ثم تعمقت تلك الكينونة في أعقاب سقوط بغداد انطلاقاً من تفاهم قادت إليه واشنطن جرى ما بين أربيل وأنقرة وهو يقوم على أمرين اثنين: أولهما أن يبقى تسلح إقليم الشمال العراقي تحت العين التركية فلا يغيب عنها أو عن إشاراتها بالرفض والقبول تحت أي ظرف كان، وثانيهما ربط الاقتصاد القائم في الإقليم بحبل مشيمة الاقتصاد التركي وتلك حالة كانت ضرورية تحسباً للمآلات التي قد تدفع بها التطورات المحتملة ولربما أثبتت تلك الآلية كفاءتها فيما سيحدث لاحقاً، والراجح هو أنها لعبت دوراً أساسياً في رجحان كفة بغداد التي مضت نحو وأد فكرة انفصال الإقليم التي انهارت في كركوك تشرين الأول 2017.


لا يتشابه الوجودان الكردي في الشمال العراقي والشرق السوري إلا بالقليل، وعلى الرغم من أن الأول حاول الاستفادة من حالة المد التي عاشها هذا الأخير ما بعد حصوله على وكالة حصرية للحرب على داعش من واشنطن بدءاً من عام 2015 في مؤشر إلى تناغم الحركة الذي كان استفتاء الانفصال قد جاء في سياقاته، إلا أن تواتر الأحداث أثبت أن كلاً من المسألتين مختلفتان بحكم اختلاف التاريخ وعوامل الديموغرافيا اللتين انعكستا ولا شك على طبيعة الحراك السياسي في كل من الجغرافيتين وهو ما تظهره الكثير من المعطيات.


عندما جرى توقيع اتفاقية «سيفر» في عام 1920 لم يكن هناك وجود كردي يكتسب طابعاً ديموغرافياً في سورية، وهذا الأخير لم تظهر ملامحه إلا بعد ثورة الملا سعيد بيران على الأتاتوركية في عام 1925 حيث تسببت هزيمة بيران في موجات هجرة باتجاه الأراضي السورية والعراقية أيضاً، وهو ما ترصده وثائق الانتداب الفرنسي وكذا وثائق الحكومة السورية في تلك المرحلة وأهمها مذكرات محمد كرد علي الذي شغل منصب وزير المعارف وفي حينها قام الأخير بزيارة لمدينة الحسكة عام 1931 للوقوف على واقع تجمعات اللاجئين التي قال: إن «جمهرتهم من الأكراد»، وفي قراءة تثبت هذا الواقع كانت تصريحات عبد الله أوجلان زعيم ومؤسس حزب العمال الكردستاني قبيل أن يتم اعتقاله شباط 1999 والتي أدلى بها للكاتب نبيل ملحم وجمعها في كتاب بعنوان «سبعة أيام مع آبو» وصدر أواخر هذا العام الأخير، وأهم ما جاء فيها: «ليست هناك مشكلة كردية في سورية ولا أراضي تاريخية للأكراد فيها»، وفي حينها لاقت تلك التصريحات هجوماً كبيراً من الأحزاب القومية الكردية التي اتهمته بـ«مهادنة» دمشق لاعتبارات سياسية وشخصية على الرغم من أنها كانت تأتي في سياق تاريخي وجغرافي صحيحين، آنذاك كانت أوساط الحزب قد أيدت وزادت في تأكيد تلك الوقائع قبل أن تشهد إيديولوجيات هذي الأخيرة حالة لا يمكن تسميتها سوى بانحرافية قل نظيرها ولسوف تكون لها تبعاتها الكبرى عليها لاحقاً، فمن كان يخمن أو يتنبأ بتحالف حزب يتبنى الماركسية منهجاً له أن يصبح حليفاً للولايات المتحدة بدرجة يطمح فيها أن ترقى إلى مصاف التحالف الأميركي الإسرائيلي القائم منذ عقود، وفي الديموغرافيا يمكن الإشارة إلى دراسة نشرت عام 2012 كان قد أجراها 107 باحثين من السوريين أكثر من نصفهم من الأكراد جاء فيها إن نسبة الأكراد في مدينة الحسكة لا تزيد على 3 بالمئة وفي رأس العين هي 28 بالمئة، القحطانية 32 بالمئة، تل براك 30 بالمئة، اليعربية 6 بالمئة، الدرباسية 23 بالمئة، تل حميس 8 بالمئة، تل تمر 4 بالمئة، المالكية 23 بالمئة، وفي مناطق المحافظة الجنوبية مثل الشدادي ومركدة فإن الوجود الكردي يكاد يكون غائباً تماماً، أما في المعقل الأهم لذلك الوجود الذي تشكله مدينة القامشلي فنسبتهم لا تزيد على 40 بالمئة فيها.


تهدف السردية السابقة إلى القول إن المشروع الكردي الانفصالي محكوم عبر عوامل التاريخ والجغرافيا بالفشل، لأنه ببساطة يسير عبر مسار معاكس للوقائع والحقائق ولربما كان إدراك القيمين على هذا المشروع لهذي الأخيرة هو الذي يدفع بها نحو الانخراط في مغامرات إقليمية من النوع الخطر والأهم هو أنها تفوق أحجامه وقدراته.


تجهد ميليشيا «قوات سورية الديمقراطية – قسد» في الأشهر الأخيرة إلى تكريس حالة هي أقرب إلى «الأمر الواقع» وآخر تطوراتها هو ما شهده الشرق السوري منذ أواخر حزيران عندما عمدت «قسد» إلى تشكيل مجالس عسكرية في العديد من مناطق سيطرتها مثل عين العرب وتل أبيض ومدينة الطبقة والرقة والقامشلي والهول، والراجح أن الأسابيع المقبلة سوف تشهد تشكيل المزيد من تلك المجالس في سياق ترسيخ تلك الحالة، والجدير بالذكر هنا هو أن هذا المسعى يلقى دعماً سعودياً إماراتياً مطعماً بدعم أوروبي لكن هذا الأخير لا يزال حتى اليوم من الدرجة الثانية قياساً بالحالة السابقة إلا في حالته الفرنسية التي أظهرت منذ اجتماع المجموعة المصغرة الأخير في باريس 24 حزيران الماضي استعداداً نحو منح الأكراد حيثية سياسية دولية تكتسب مشروعيتها بفعل الأمر الواقع.


تأتي التقارير التي نشرت جريدة الأخبار اللبنانية أحداها في 15 تموز الجاري ثم عاد وأكدها رجل الأعمال الإسرائيلي الأميركي مردخاي كاهانا في اليوم التالي حول حصوله على تفويض «كردي» يتولى عبره تصدير النفط السوري إلى إسرائيل، في سياق تنامي نزعة «الاستعانة بالشيطان» لدى القيادات الكردية الماضية في مقامرة خطرة ستكون لها تداعيات بعيدة الأثر على المستويين المحلي والإقليمي، ولا يمكن بحال من الأحوال الوقوف عند نفي الرئيسة المشتركة لـ«مجلس سورية الديمقراطية – مسد» إلهام أحمد لذلك الأمر سريعاً، فما جدوى ذلك النفي بعد أن كان القائد العسكري لـ«قسد» مظلوم عبدي قد قال عشية التصديق على «قانون واجب الدفاع الذاتي» مطلع هذا الشهر: إن «الدولة السورية من دون مناطق شمالي وشرقي سورية ستكون دولة فاشلة».
 

Copyrights © al-elam.com

المصدر:   http://www.emediatc.com/?page=show_det&category_id=15&id=62324