أحوال البلد

329 حريقاً خلال العام الماضي و2500 هكتار محروقة


البلطات والفؤوس والمناشير الكاتمة للصوت وحرائق النيران، هي العدة المستخدمة لذبح ملايين الأشجار المعمرة، ولتحويل آلاف الدونمات من الغابات التي كانت تكاد تتكلم من شدة بهائها وجمالها، إلى مساحات سوداء محروقة قاحلة.

وكما تفجع سورية يومياً بخسارة مئات القطع والمواقع الأثرية الموغلة في التاريخ، تخسر أيضاً آلاف براميل النفط، وتأتي الغابات لتشكل ركناً ثالثاً لهذه الكوارث الاقتصادية التاريخية  البيئية.
يقول مختصون: إن حجم الدمار الذي أصاب غابات سورية وحراجها، لم تتعرض له منذ أيام الاحتلال العثماني، عندما أقدم الجيش الانكشاري العثماني على قطع الغابات السورية قبل نحو 100 عام، لاستثمار أخشابها، وربما لتحويل الغابات الخضراء إلى صحارى.  
في تلك الحقبة ( الاحتلال العثماني) انخفضت المساحات الخضراء وتراجعت من نحو 20 ـ 30% كما يقدرها مطلعون، حتى وصلت الآن إلى 3% فقط من مساحة القطر،وهي مساحة محدودة جداً، ولكن جاءت هذه الحرب لتجهز على كثير من هذه المساحة المحدودة.
تسببت الحرب بدمار ما نسبته أكثر من  2% من المساحة العامة للغابات  كما تشير إحصاءات الزراعة لعام 2012، علماً أن المعلومات التي تصل إلى الزراعة غير محدّثة ولا تعبر عن حجم الخسائر التي تحصل تماماً، بسبب صعوبة الوصول إلى أكثر تلك المناطق، كما ذكر مدير الحراج المهندس وجيه خوري، لتبقى الحقيقة الموجعة: سورية تخسر ثروة حراجية لا تقدر بثمن، يقول خوري: إذا كانت قيمة التقديرات المالية للخسائر بمليارات الليرات، فإن الأضرار البيئية تزيد بأضعاف ولا يمكن تقديرها.

تتلقى الغابات الضربات وتتعرض أشجارها للقتل من قبل كثير من الجهات:  فكما هي أرض للمعارك، وملجأ يستخدمه المسلحون للتخفي عن أعين الجيش، هي أيضاً صيد ثمين بلا حماية بالنسبة لمن كانت تردعه  القوانين عن تحميل السيارات بأطنان الخشب للبيع، فسعر طن خشب السنديان يتراوح بين 10 ـ 18 ألف ليرة، يقول أحمد أحد العاملين في سوق الهال: إن الكثير من الشاحنات التي كانت مهمتها شحن البرتقال إلى المحافظات ظلت لفترة طويلة تعمل بنقل الحطب، وأحياناً تغطى أرض السيارة الشاحنة بخشب السنديان ويوضع فوقه صناديق البرتقال عند التوجس من اعتراض أحد الجهات الرقابية على شحن الخشب.
الهجوم على الغابات أيضاً من قبل  بعض أصحاب النفوذ، وغيرهم عن طريق إشعال الحرائق، أو قطع الأشجار بقصد كسر الأراضي، واستثمارها في بناء «الفيلات» السياحية والقصور الفخمة! أو لاستثمار الأرض في الزراعة. فقد بلغ عدد قرارات نزع يد لمحاولة اغتصاب  أراضٍ حراجية  خلال العام الماضي نحو 687 قراراً، لمساحة 1078 دونماً، في حين وصل  عدد المخالفات الحراجية لغاية نهاية تشرين الثاني من العام الماضي نحو 2534 مخالفة أحيلت للمحاكم، كان العدد الأكبر منها في محافظة طرطوس، حيث بلغت 938 مخالفة، نسأل مدير حراج  طرطوس المهندس حسن ناصيف لماذا تسجل المحافظة  الرقم الأعلى بعدد المخالفات رغم إنها منطقة آمنة؟
تحت ضغط الحاجة
يقول ناصيف إن 60% من الأضرار سببها تعدٍ مقصود، فمعظم غابات طرطوس تتاخم حدود حمص حيث المناطق غير المستقرة أمنياً، وإن نحو 50 هكتاراً من الأضرار حرائق مفتعلة، مؤكداً أن أحد أيام الجمعة شهد اثني عشر حريقاً بالمنطقة ذاتها، ويؤكد أيضاً أن قسماً كبيراً من التعديات الحالية سببه ارتفاع أسعار المحروقات. يطالب ناصيف بتعاون كل الجهات والهيئات المحلية لحماية الغابات، لأن الحراج وحدها لا تستطيع القيام بهذا العبء منفردة.    
القطع أو التحطيب بقصد التدفئة، هو الأكثر شيوعاً، فهناك من امتهن قطع الحطب بقصد التجارة وإيجاد دخل، وهناك من يقطع الشجر للحصول على حطب سيعطي الدفء لأسر لا بديل لها عن الحطب لحماية أولادها من عواصف الشتاء، ولاسيما بعد ارتفاع أسعار المحروقات بشكل يصعب معه على الأغلبية تأمين حاجتهم من الوقود. يقول أبو محمد أحد الذين يستخدمون أشجار السنديان للتدفئة، ويقطعها من غابة مجاورة لمنزله إن تدفئة أولاده من برد الشتاء تجعله في حل أخلاقي من نظريات تحريم قطع أشجار الغابات، ويدّعم نظريته بتساؤل يبرر له أكثر فكرة قطع أشجار الغابة: هل نحزن على الأشجار ونحن نقبر كل يوم العشرات من أبنائنا؟
من أراض خضراء إلى قاحلة
وإذا تعددت الأسباب وتنوعت فإن النتيجة توثيق نحو329 حريقاً لغاية نهاية الشهر الماضي من  العام الماضي، تسبب بحرق نحو 52111.4 دونماً (2500 هكتار)، في كل دونم  نحو 80 غرسة حراجية....!
كان عام 2012 الأشد عنفاً على الغابات من حيث عدد الحرائق فتبعاً للإحصاءات المتوافرة لدى مديرية الحراج في وزارة الزراعة حصل نحو 451 حريقاً، قضم أكثر من 10 آلاف هكتار، علماً بأن هناك أضرار المواقع الساخنة التي لم توثق.
رئيس قسم الحماية في حراج إدلب ياسر بركات يؤكد أنهم لم يعاينوا الأضرار ميدانياً منذ نحو عامين، لأن الكثير من غابات إدلب خارج السيطرة، وأنهم يعملون حالياً على تقدير الأضرار باستخدام «غوغل» حيث تتم المقارنة بين المساحات الخضراء قبل الأحداث، وتحديداً الشهر التاسع من عام 2004 مع 2012.
المدير السابق في حراج  إدلب أمين الحسن يقول: إن المساحة الحراجية الطبيعية أكثر من  42 ألف هكتار، والاصطناعية 40 ألف هكتار،  وتأتي إدلب في المرتبة الثانية بعد اللاذقية بانتشار الغابات، ويؤكد أن الأضرار كبيرة أكثرها حرائق وقطع بقصد التدفئة.
في حين يقدر بركات أضرار الغابات في المحافظة بنسبة80 % ويقدر الأخشاب المحروقة بنحو 22 ألف متر مكعب، فشجر كالصنوبر( بروني) الخلاب احترق بأكمله تقريباً. 
اعتداءات أيام الرخاء
لم تتوقف الاعتداءات على الغابات يوماً، فقبل بداية الأحداث وصل عدد الحرائق في 2010 إلى 585 حريقاً التهمت مساحة بلغت 372 هكتاراً، حيث كانت أضرار ذاك  العام أكثر من الأضرار التي أصابت الغابات في عام 2011 (بداية الأحداث) والتي  بلغت 351 حريقاً، أتت على 322 هكتاراً، وربما ما يعزز هذه الفكرة هو أن عدد الحرائق المسجلة في محافظة اللاذقية مثلاّ  75 حريقاً، 28منها في المناطق غير المستقرة أمنياً كما يرد في إحصاءات مديرية الحراج، وهذا يعني أن ما تبقى اعتداءات على الغابات، فهناك من يتحدث عن تعرض الغابات الواقعة بين النبي متى, وجوبة برغال وصولاً إلى طنطاش إلى ما يشبه الإبادة ليشيد مكانها «فيلات وقصور»!
تبلغ المساحات الحراجية في سورية لغاية عام 2012 أكثر من  513ألف هكتار كما يؤكد خوري،  وتتوزع هذه المساحة بين نوعين من الغابات: طبيعية، واصطناعية، كانت تشكل نحو 3% من مساحة سورية، تتنوع إلى  31 محمية حراجية ومنطقة بيئية، وحدائق نباتية بمساحة تصل نحو 187.5 ألف هكتار، معظمها تعرضت لأضرار كبيرة.
( المحمية الحراجية هي: مساحة محدودة من الأراضي الحراجية أو أراضي أملاك الدولة، تتميز بالغنى الواضح بالتراث الطبيعي الحراجي، إضافة إلى المكونات الأخرى من النباتات والحيوانات والأحياء الدقيقة وتتعايش فيما بينها وفق نظام بيئي معين بهدف حمايتها والحفاظ عليها واستثمارها بالسياحة البيئية باعتبارها نقاط جذب سياحية).
ماذا بقي من المحميات؟
. محمية الفرنلق في محافظة اللاذقية، سحرها لا ينساه كل من رآها، في هذه الغابة وعلى مساحة 5 هكتارات من مساحتها الإجمالية (1500 هكتار) ينتشر السنديان العذري، وتحيطها السلاسل الجبلية من كل الجهات، ما جعلها تشكل بيئة خاصة ساعدت لبقاء السنديان العذري كما يقول د. محمد قربيصة من كلية الزراعة جامعة دمشق، مضيفاً أن أشجارها باسقة، عمرها أكثر من 100 عام، وارتفاعاتها تناهز 25 ـ 30 م، وأقطارها تقارب المتر،ويرى د. قربيصة أن قيمة هذه البقعة بندرتها، فهي سنديان عذري وسط غابات صنوبرية.
ما هو متاح من معلومات يشير إلى أن الخراب أصاب نصف مساحتها الإجمالية. كذلك حال محمية الأرز والشوح في اللاذقية أيضاً، قطعت الكثير من أشجارها من جميع الأعمار والأنواع، وتركزت عمليات القطع على جانبي الطريق العام صلنفة ـ محطة البث ـ الغاب.
•في محمية جبل عبد العزيز والهول بالحسكة  أشجار البطم الأطلسي، قطعت بنسبة تتراوح بين 3 ـ 100%، كما في بيانات الحراج.
•أما محمية البلعاس في حماة التي كانت عامرة بأشجار البطم الأطلسي المعمر على مساحة 22 ألف هكتار، فقد تحولت إلى أرض بلا أشجار، بعد قطع آلاف الأشجار التي يعود عمرها لمئات السنين، كما يؤكد مدير حراج حماة المهندس موفق السباهي مضيفاً أن هذا النوع من الشجر نادر، ولا يتجدد من دون زراعة، بعكس الأنواع الأخرى كالسنديان والبلوط. لكنه أعدم كما الأعشاب الطبية والنباتات والحيوانات التي تعيش في الغابة، ويؤكد السباهي أن هناك نحو 11 ألف دونم احترق في مناطق مصياف.
السباهي يتحدث عن 356 ضبطاً حراجياً ( حرق قطع كسر أرض بقصد التمدد) في المناطق الآمنة لكن تبقى المناطق الساخنة خارج الحسابات.
•محمية أبو رجمين في بادية حمص للبطم السويد والنباتات الرعوية،  ولهذه المحمية أهمية خاصة لأنها في منطقة جافة، إضافة إلى محميات أخرى لم تتمكن الوزارة من الوقوف على حجم الأضرار  فيها كمحمية حويجة، أبو حردوب في دير الزور وعياش، وحويجة الصالحية في البوكمال.
•من ضحايا الحرب أيضاً محمية جباتا الخشب في القنيطرة، والحديقة الوطنية في درعا، ومحمية ضمنة واللجاة في السويداء، وغابة الباسل في إدلب، محمية اللذاب في ريف دمشق وفيها الأشجار المعمرة، وأضرارها غير معروفة بدقة حتى الآن.
•تجاوزت الحرائق التي تحصل على الحدود، وامتدت إلى لواء اسكندرون المحتل ليسجل 60 حريقاً التهم نحو 2226 هكتارا ًمن الغابات الصنوبرية خلال العامين الماضيين، كما نشرت بعض المواقع الإلكترونية.
نقص أوكسجين
يقول خوري: إن للغابات خدمات متعددة منها بيئية واقتصادية وطبية وجمالية وترفيهية وعلمية، ومن فوائدها البيئية احتجاز غاز ثاني أوكسيد الكربون، وطرح الأوكسجين(1 هكتار من الغابات الصنوبرية يحتجز 22 طناً من غاز co2 ويطلق 18 طناً من غاز o2)، وتنقية الهواء من الغبار وتلطيفه.
يصف د. محمد قربيصة من كلية الزراعة في دمشق، الغابة بالرئة، ويقول: إنه مع هذه الأحداث تصبح المعادلة خاسرة، لأن مصادر الأوكسجين تنقص وغاز الكربون الذي يجب التخلص منه يزيد، ولاسيما أن مهمة غاباتنا الأساسية وقائية، وليست لإنتاج الأخشاب، مهمة بيئية ( تنقية الهواء، وإمداده بالأوكسجين، وتلطيف الجو، سياحية جمالية لأنها محدودة المساحة) فالدمار يسبب ارتفاع درجة الحرارة، لأن مهمة الغابات فوق سطح الأرض: تلطيف الجو وخفض درجة الحرارة ونسبة الرطوبة في الهواء، أما في التربة فتتسبب هذه الأضرار بحرق للمادة العضوية، ولما كانت المادة العضوية جزءاً أساسياً من خصوبة التربة، فإن الحريق يميت الأحياء الدقيقة المتعايشة مع النباتات بالتربة، وبالمحصلة تهدم بناء التربة، الأمر الذي يزيد من فاعلية الهطولات بجرف التربة الحراجية للغابة، التربة عبارة عن فرشة غابية تمتص الرطوبات، وعند حرق الغابة تصاب التربة بالتعرية.
إن التربة هي المهد الأساسي لبناء النباتات، وإذا تضرر المهد، تصبح فرصة تجدد الغابة ضعيفة، لأنها أقل ملاءمة لنمو النباتات، وبدل من أن يتسرب الماء في الطبقات ويغذي الينابيع يصبح انسيال الماء سطحياً، وتنجرف التربة.
البلان مكان الأعشاب الطبية
يضيف د. قربيصة أنه عند احتراق غابة يمكن أن تحل أنواع مكان أخرى، وقد لا تعود الغابة نفسها بل يعتريها تغيير في الأنواع وبنسبة مشاركة الأنواع، فعقب الحريق هناك أنواع لا تتجدد بالخلفات (كالمخروطيات، الصنوبر البروني) وإذا ماتت البذور في المخاريط  تموت البذور. الصنوبريات لا تتجدد بالخلفات عند الحريق أو  القطع، وتظهر بدائلها من أنواع  السنديان، وتالياً يطغى السنديان عن طريق الخلفات، ويتغير تركيب الغطاء النباتي وتظهر نباتات أقل أهمية (كالبلان) أو أعشاب مغايرة لما كان بسبب انكشاف سطح الأرض، وهذا يسبب هشاشة النظام البيئي للمنطقة المحروقة.
تكاثر الآفات الحشرية، وانتقالها لبقية المواقع في الأراضي الزراعية، فالحريق يضعف الشجرة، يقوى المهاجم ويجد موئلاً مناسباً للتكاثر وتنتشر أمراض قد تؤثر في المزروعات المجاورة للغابات.
يضيف قربيصة أن فقدان شجرة واحدة هو خسارة، ولكن يمكن تغطية المنطقة التي تعرضت للأذى خلال خمس سنوات من بعد زراعتها وتشجيرها قبل أن يسرع السكان المجاورون إلى استثمار الأرض وزراعتها. بينما هناك آراء علمية أقل تفاؤلاً تشير إلى أن الغابة تحتاج إلى أكثر من 15 عاماً لتجديد نفسها، وأن هناك مناطق تضررت تحتاج لأكثر من 50 عاماً لتعود كما كانت، وأن هناك غابات اختفت بأكملها خاصة في المناطق الشمالية من سورية بسبب الحرائق، وأن هناك أنواعاً من الأشجار المقطوعة لا يمكن تعويضها.
تاريخ التحريج
محمد فارس من قسم حماية الحراج يؤكد أن المناطق الحراجية كانت تشكل نحو 15 % من مساحة سورية في فترة العشرينيات، وأن مشاريع التشجير بدأت منذ 1953 إذ تم تشجير 16 هكتاراً أول عيد للشجرة، حيث كانت المساحة الطبيعية للحراج 232.8 ألف هكتار، والتشجير الصناعي فاق هذه المساحة. ومنذ ذاك التاريخ وحتى 1970 بلغت المساحة المشجرة 5 آلاف هكتار، ومنذ السبعين وحتى 1976 أصبحت 11 ألف هكتار.
يضيف فارس أنه في عام 1977 تشكلت اللجنة العليا للتشجير واستثنيت من جميع الأنظمة والقوانين لتطوير عملية التشجير، حيث كانت الخطة تقتضي تشجير 12 ألف هكتار، وإنتاج 25 مليون غرسة حراجية.  ومع تطبيق هذه الخطة وصلت المساحة المشجرة في 1984 إلى 24 ألف هكتار، وإنتاج نحو 30 مليون غرسة.
في عام 2000 تغيرت سياسة الدولة، وأصبح التشجير وفق الإمكانات، فانخفضت المساحات التي تشجر.

يسرى ديب- تشرين

Copyrights © al-elam.com

المصدر:   http://www.emediatc.com/?page=show_det&category_id=10&id=3077