تحقيقات وتقارير

أهالي المدينة الملونة : من الظلام يولد النور


تعرضت عدرا العمالية أو المدينة الملونة كما يسميها أهلها في كانون الأول من عام 2013 لمجازر دامية حين اقتحم "جيش الإسلام" و"جبهة النصرة" المدينة، وخطفوا أكثر من خمسة آلاف مدني.

قصصٌ كثيرة حول عملية الاقتحام انتقلت بالتواتر بين الناس، مثل استشهاد المهندس نزار حسن الذي فضّل أن يفجّر أربع قنابل يدوية بنفسه وبعائلته لحظة اقتحام المسلّحين منزله على أن يقع بأيديهم، والعقيدان جهاد حامد مخلوف ومحي الدين الخطيب اللذين فجرا نفسيهما وقتلا عددا كبيرا من المسلحين.

بعد كل ماعاشه أهالي مدينة عدرا العمالية،قامت مجموعة من الأطباء النفسيين بالعمل على معالجة من هم بحاجة للمساعدة تحت إشراف "بطريركية الروم الأرثوذكس " في برنامج الدعم النفسي والاجتماعي.
 

مشاهدات لما حدث في عدرا العمالية

 

أم محمد: الحياة أو الموت

"أيام الحصار كانت من أصعب أيام حياتي أثّرت عليّ وعلىّ أطفالي بشكل كبير"، تقول أم محمد واصفة ما جرى معها: "عانينا الأمرين تحملنا كل شي قتل وذبح وإهانات وجوع وعطش لكن الأصعب كان عندما اخذوا زوجي، حيث كنا مختبئين في قبو البناء وعندما قرر أهالي عدرا الخروج قلنا ( الحياة أو الموت )، خرجنا وكان زوجي خلفنا نسير بسرعة لنصل إلى جيراننا"، وتضيف أم محمد: "صراخ ابني جعلني استدير للخلف لأرى زوجي مكبل بين أيدي هؤلاء القتلة، بداية كذبت عيوني، من جهة كنت أرى النور، وهو طريق الخروج، ومن جهة كنت أرى الظلام، كان زوجي يختفي ونحن نركض خلفه وننادي بأعلى صوت، وعندما وصلت عند أحد هؤلاء القتلة ركعت عند قدميه أرجوه أن يترك زوجي، لكن ذلك لم يشفع فالقاتل قاتل"، وتكمل أم محمد: "تمالكت نفسي وجمعت أولادي وخرجنا، وهنا بدأت المأساة الأخرى ابني بدأت تصيبه حالة تلعثم وكوابيس وبدأ بالتدخين رغم صغر سنه، وبناتي تراجعت دراستهن عدا الكوابيس والقلق الدائم الخوف وعدم الشعور بالأمان".

وتضيف أم محمد: "عندما سمعت بخصوص برنامج الدعم النفسي شاركت فيه من أجل أولادي وبدأت أرى تحسّن طفيف في نفسيتهم، خاصة ابني حيث أمسى أكتر تقبلا للآخر وخفّت ردّات فعله العنيفة وبناتي شعروا بتحسن أكبر وبدؤوا بالدراسة، بالنسبة لي أحسست بالفرق و يجب أن أبقى قوية لأربي أولادي، والآن عدت إلى بيتي في عدرا العمالية  ولن أتخلى عنه وأدعو الله أن يعود زوجي قريباً وأن يكون بصحة جيدة".

 

شفيق"اسم وهمي": تعرضت للتعذيب نهاراً وحفرت الانفاق ليلاً

يتكلم والغضب والحزن واضح على وجهه، ويقول:" تعرضت للضرب والتعذيب بطريقة وحشية لاتوجد كلمات تدل على معاملتهم ، ستة أشهر وأنا أتعرض لجميع أنواع التعذيب، جعلوني أنقل أغراض منزلي إلى بيوت الخونة والمتآمرين معهم، ومن ثم أحرقوه وهو فارغ، وأحرقوا سيارتي من أجل إذلالي وإهانتي"، ويكمل:" بقيت في المدينة العمالية لفترة لم أستطع تقديرها اتعرض للضرب نهارا واضطر للحفر ليلا، ومن ثم نُقلت إلى دوما حيث تعرّضت لعذاب تمنيت فيه الموت ومرارا".

ويقول:" عندما دعوت إلى الجلسات العلاجية لم أتردد فأنا في أمس الحاجة إليها لكي امسح من ذاكرتي المأساة التي عشتها، لكني لم أكن أتوقع أن أتحسن هكذا، استفدت كثيرا وسأتابع معهم إلى أن أنتهي من علاجي".

 

عزيزة: أصعب اللحظات انتظار سماع خبر موت شخص نحبه

عزيزة طالبة جامعية تتحدث عن القلق والرعب الذي عاشته مع أخيها وخوفهما من فقدان عائلتهم فهم كانوا خارج المدينة العمالية "مقيمين في السكن الجامعي" أثناء الحصار لكن والديها وأخيها الصغير كانوا محتجزين هناك، تقول عزيزة: "استيقظت الساعة 6 صباحا على صوت الهاتف وسمعت صوت يقول (لا تأتي إلى البيت المسلحين دخلوا إلى عدرا العمالية)
في البداية لم استوعب الحديث وقلت (اي بلا مزح) وكان الجواب (أنا لا امزح واتكلم بجدية) وعندها بدأت مشاعر كثيرة تتدفق في جسدي لا أعرف ماهي هل أبكي أم أصرخ أم أضحك، ثم أمسكت الهاتف وتحدثت مع أمي والكلام كان صحيحا"
.
 وتابعت عزيزة :"خلال الأيام الأولى كان الاتصال معهم صعب جدا، بعد ذلك انقطعت الاتصالات تماما،  والأخبار الوحيدة التي كنت اسمعها من "الفيس بوك" الذي كان ينشر أخبار كاذبة"، وتصف عزيزة أصعب اللحظات بقولها: "أصعب اللحظات كانت عندما يتم نشر أسماء اللذين استشهدوا كنت اقرأ كل اسم على أمل ألا يكون الاسم التالي اسم أبي أو أخي أو امي".

وختمت عزيزة بالقول: "نحن الآن أفضل حالا من كلّ النواحي وبرنامج الدعم النفسي ساعدني كثيرا حيث تخلصت من الكوابيس التي كنت أعاني منها ومن حالة الخوف وعدم الشعور بالأمان الذي كان يرافقني دائماً، والآن عدنا إلى بيتنا وبالنسبة لي عدرا العمالية هي المدينة الملونة وهي مدينتنا الجميلة".

 

رأي مختص

الدكتور فادي جريج محاضر في كلية التربية جامعة دمشق ومختص في تعديل السلوك الإنساني، ومتطوع مع بطريركية الروم الأرثوذكس في برنامج الدعم النفسي والاجتماعي وبرنامج بناء القدرات المجتمعية منذ أيار عام 2012

 

عن فكرة برنامج الدعم النفسي يقول:" بدأت فكرة البرنامج مع توافد اللاجئين العراقيين إلى سورية، وفي عام 2012 كان التركيز على للنازحين السوريين، والعمل على تقديم الدعم النفسي والاجتماعي للسوريين من مختلف المحافظات ولكافة أطياف المجتمع".

 

وأشارجريج:أنه  في الأزمات يتعرض كيان المجتمع لأحداث صادمة نتيجة النزاع المسلح والاعتداء والقتل والتهجير، وظهور أشخاص بحاجة إلى دعم نفسي، وهنا يأتي دورنا حيث أن برنامجنا يتدخل وفق المعايير العالمية، فهدفنا تحسين الحالة النفسية والصحة النفسية والرفاه النفسي للمتضررين من الأزمة.

 

ويقول جريج:" إنه  في كل سنة نطور البرنامج حسب المتغيرات والمعطيات وحسب الحاجة، ونتعامل مع العائلة ككل ومع أفرادها بشكل منفصل، فكثير من مشاكل العائلات تكون بسبب أحد أفرادها لذلك يجب أن تكون كل العائلة حاضرة أثناء جلسات العلاج ليعرف كل شخص دوره بغية تحقيق الصحة النفسية.

 

أما بالنسبة للأطفال أكد الدكتور جريج أنه يتم تقديم علاج لهم عن طريق الألعاب ومن خلال المسرح النفسي، أما المراهقين فالبرنامج يعتمد على صورة الجسد، خاصة لمن لديه إعاقة جسدية نتيجة بتر أو تشوه ، والعمل على مفهوم الأنا الذي تضرر نتيجة النزوح المتكرر وفقدان أحد أفراد الأسرة وكذلك نتيجة مشاهد العنف اليومية.

 

وختم الدكتور جريج بالقول "في الحقيقة ما يسرنا هو النتائج التي وجدناها عند الناس الخاضعين لهذا البرنامج وكذلك تغير الواقع حيث بدأ الناس بتقبل فكرة وجود المعالج النفسي والطبيب النفسي والحاجة له ورغبتهم بزيارته وأتباع تعليماته".     

 

هناك ما نشاهده ومالا نشاهده، فما نشاهده هي الصور المؤلمة للموت والدمار، وقد يكون الزمن كفيل بتجاوزها، ومالا نشاهده هو الأثر النفسي الذي ستتركه هذه الحروب بداخل من عاصرها، فالسلاح الأشد فتكاً في الحروب هو التدمير النفسي الذي يطال الناس كبيرهم وصغيرهم.

 

إيرينا الشرع. مركز الإعلام الإلكتروني

Copyrights © al-elam.com

المصدر:   http://www.emediatc.com/?page=show_det&category_id=44&id=18999