تحقيقات وتقارير

في عيد الأم .. منسيون خلف سياج العمر


يسجلّ عيد الأم حضوره على مواقع التواصل الاجتماعي بكثير من المظاهر الاستعراضية، وربما يغيب عن تفكير الكثيرين منّا وجود مسنّين يعيشون على الهامش، ممن لم يجدوا قلوباً رحيمة تعطف على فئة لم تعد تقوى على تدّبر أمرها بنفسها. تختصر دار المسنين دورة الحياة من المهد إلى اللحد، هنا يتساوى من لم يتزوج وينجب أطفالاً، مع من أنجب، الدار بيت الاثنين، بعدما فقدا ملجأهما خارجه.

 

أمهات يعيشون على الهامش

خلال زيارتنا لأحد دور الرعاية التقينا "أم سامي" التي تعيش في الدار منذ 3أعوام، تجلس بهدوء وملامح متعبة، رغم محافظتها على كامل أناقتها،أملاً بقدوم أبنائها في أية لحظة، بكبرياء تهزّ رأسها لتؤكد أنَّ زيارات أولادها لا تنقطع للاطمئنان عليها، وكأنها تستخدم "الإنكار" كوسيلة دفاع أولية.
كلام "أم سامي" كان عكس الحقيقة التي أخبرتنا بها المشرفة على رعايتها، فقلّما يأتي أحد لزيارتها، لكنها ورغم كلّ ضعفها تحمي أبنائها بكل ما أوتيت من طُهر أموميّ.. وبعتب مستتر تقول: "أبدا..مستحيل أعتب عليهم".

 

أمّا "إميلي"  التي لم تنجب أولاداً لا تجد عزاءً في دار المسنين، وتتساءل بأسى ما فائدة الأولاد؟!
وترى أنّ وجودها في دار المسنين "عقاب" على ذنب مجهول، ذكريات أليمة تختزنها قسمات وجهها الذابل، لتروي لنا بحسرة ضياع عمرها بعد أن فقدت منزلها في دير الزور، وموت أخويها الوحيدين في الحرب،تقول: "أسأل الله في سرّي ما الشرّ الذي ارتكبته في حياتي لأعاقب عليه".

 

"روز" المسنّة المرحة، ترسم بروحها الكثير من الفرح خلال جلساتها مع من أصبحوا كعائلتها، احتفت بنا بكل ماتملك من فرح، وكأنها طفلة حصلت على هديتها في يوم العيد، روز التي تجاوزت الـ 94 عام، تنادي الجميع بـ"ياختيارة" رغم أنها الأكبر سناً، وتقول "الحمدلله لم اتزوج"، فهي ترى أن عدم وجود من يرعاها ودخولها دار الرعاية بإرادتها، أرحم من أن يتخلّى عنها أبنائها.

 

هي حكايا تشبه غيرها في كثير من التفاصيل، فالمتواجدون في دور المسنين ليسوا جميعاً كهولاً قُطع رحمهم من العالم، بل في نفس المدن التي يقطنون، تعيش أسرهم وأبناؤهم الذين لم يتحملوا عبء رعايتهم.

 

هرِمت "نور" وهرمت معها ذكرياتها، وأُصيبت بـ"الزهايمر" لتصبح بحاجة إلى رعاية خاصة، فبعد سنوات من الشقاء قرّر أبناؤها التخلّي عنها والبحث عن حياة خالية من المسؤوليات، تبحث "نور" عن الحبّ الذي قدمته في صباها، لكن رد فعل أبنائها كان قاسياً لا يسمو إلى درجة حنّوها عليهم.

 

مشاريع إحسانية أم ربحية

تشير أحدث دراسات الهيئة السورية لشؤون الأسرة ووزارة الشؤون الاجتماعية والعمل إلى وجود 21 داراً للمسنين في سورية، اثنتان منها حكوميتان، والباقي يتبع لمنظمات المجتمع المحلي.

دار "السعادة " واحدة من الدور التي تُعنى برعاية المسنين، يتسع ل120 نزيلاً، مكان هادئ ومستقر، تسوده الذكريات والتنهدات، يقدّم العناية التي تتطلبها حالات المسنين، وبطاقم إداري يقوم بما لا يقوم به الأبناء نحو آباءهم.
وبحسب تصريح الإدارة فإن التمويل يعتمد على أجور النزلاء ودعم من قبل جمعية الإسعاف العام، دون أي دعم حكومي، لتختلف الخدمة فيه حسب الأجر المادّي وتناسباً مع عدد نجماته..!

 

رأي المجتمع السوري

اختلفت آراء المجتمع السوري حول فكرة إرسال الآباء لدور المسنّين، رغم ما يتضمنه هذا الفعل من دلالات اجتماعية منافية للذوق الأخلاقي والقيم العامة .

"تالا" من جيل الثمانينيات تقول "من المعيب والمخزي ترك الوالدين، لكن ربما نظرة المجتمع بدأت تتغير لإضفاء الشرعية على هذا الفعل".
 

أما "منى شاهين" المشرفة  في دار "جمعية القديس غريغوريوس" تختار العيش في الدار مستقبلاً، إن لم يستقبلها  أحد من أسرتها، وترى أنّ الدار أحياناً تكون أكثر احتراماً من الأسرة!!
وفي السياق ذاته يرى"ابراهيم 35 عام" أنَّ لدى المجتمع نظرة خاطئة حول دور رعاية المسنين، إذ غالباً ما تكون بمثابة منزل كبير يُعوِّض عما فقده المسن من عطف ورعاية.

بعكس ماتراه "لمعى 67 عام" التي تعيش مع ابنتها الوحيدة، فهي ترفض نهائياً عذر من يتخلى عن والديه أيّاً كانت الأسباب، وترى أنهم "بلا ضمير أو إحساس"، فهل جزاء الأم أن تبقى مرمية منسية؟..
وتقول: "أنا على يقين أنه مهما بلغت مرارة الوحدة في قلب الأمّ فهي ترفض الاعتراف بتقصير أبنائها، لتستر أفعالهم حتى آخر العمر".

 

مأوى أم منفى ..؟

تشير الدراسات إلى أنّ 70% من المسنين في دور الرعاية يلازمهم الشعور بالعزلة والوحدة النفسية، فهناك حالات انفعالية تميّز كبار السن كالحزن واليأس، والشعور بالذنب، إضافة للشعور بعدم القيمة، وبأنّ الآخرين لا يرغبون في وجودهم، مقابل 30% ممن يتقبلون الوضع ويشعرون بالارتياح، والذين هم في أغلبهم ممن دخلوا دور الرعاية بإراتهم.

 

وترى الباحثة التربوية "إسراء زهوة"، أنّ دار المسنين لا يمكن أن تعوض عن اهتمام الأبناء ،وتتنوع الأسباب التي تدفع الأبناء لوضع آبائهم في دور العجزة بحسب رأي الباحثة ، ويعتبر سفر الأولاد من أكثرهذه الأسباب شيوعاً، كما تلعب في بعض الأحيان زيجات الأبناء دوراً بارزاً في التخلي عن الأباء، إضافة إلى الخلل في بناء الأسرة.
وترى الباحثة  أنه لا يمكن اعتبار التخلي عن الوالدين أمراً عاديا،ً فهو لا يتوافق مع عادات المجتمع السوري، وغالباً ماينعكس سلباً بانحلال القيم الأخلاقية.

 

الشيخ "خالد القصير" مدير المكتب الإعلامي للسيد وزير الاوقاف، يرى أنه:" لا يوجد  في الإسلام مايسمى بـمأوى عجزة أبداً، فهو أحد المستوردات العجيبة التي تأتينا من الغرب، ولا يوجد إنسان مسلم شريف فيه ذرة من الدين يتخلى عن والديه".
 

 

مرحلة الشيخوخة في حياة الانسان لها استحقاقاتها الخاصة التي يجب أن يراعيها الأبناء والمجتمع على حد سواء، وعدم التنصل من المسؤولية، فكبارنا كالأحجار النادرة،لكن أمام هذا الواقع يتردد إلى الأذهان جملة من أغنية "يامو" الشهيرة لدريد لحّام.. "وضاعت الترباية فينا يامو"....

 

نسرين ترك . خاص مركز الإعلام الالكتروني

 

Copyrights © al-elam.com

المصدر:   http://www.emediatc.com/?page=show_det&category_id=44&id=18880