أحوال البلد

جريمة لقاحات إدلب مرّت دون أن يرف لأنصار الحرية جفن


الإعلام تايم- سناء علي
قبل أشهر كتبت عن طفلةٍ، رضيعة بعمر أربعين يوما،ً كانت تتلقى العلاج في مستشفى الأطفال في دمشق، إثر إصابتها بالتهاب كبد حاد، أو ما يُعرف بـ«اليرقان» وذلك إثر ولادتها في مستشفى ميداني في معرة النعمان بريف ادلب، غابت عنه أبسط بديهيات النظافة والتعقيم والرعاية. كانت تلك قصة "ريماس"، الرضيعة التي ولدت في غياب والدها الذي سافر إلى تركيا حسبما قالت أمها.
رائحة الموت التي انتشرت في إدلب إثر وفاة خمسة عشر طفلاً وتسمم أكثر من مئة آخرين في جرجناز بريف ادلب مطلع الأسبوع الفائت ضمن حملة للقاح الحصبة، أعادت إلى ذهني قصة تلك الطفلة، يوم صار الأطفال يذهبون فرق حسابات في يوميات هذه الحرب القذرة، الطفلة التي ولدت بلا أب ولا معيل وبظروف لا يمكن وصفها بالإنسانية، واحدة من مئات الأطفال اللذين يولدون بظروف مشابهة، ربما يكون حظهم العاثر هو من وضعهم في تلك الظروف، أما ضحايا اللقاحات فقد سارت "الجريمة" إليهم بملئ الإرادة إن لم أقل عن سابق إصرار وتصميم !
عندما كتبت عن ريماس، لم أكن لأتجرأ أن أفكر في تحزيب عائلتها أو تصنيفها بين معارضة الدولة وموالية لها، وحتى وإن كانت من عائلة معارضة وتتلقى العلاج في مستشفى حكومي فهذا واجب الدولة تجاه مواطنيها، ولا أتوقع أن للدولة حسابات تتعارض مع هذا الخيار، كان الأهم من ذلك كله وضع هذا المجتمع السائر نحو الدرك الأسفل من اللا إنسانية والبشاعة أمام مرآة تعرّي تقصيره، وتكشف زيف شعاراته المناصرة للطفولة وتفقأ فقاعات الخطابات والمحافل والاجتماعات الدولية التي تقتات كالعلق على دماء أولئك الأطفال.
اليوم أيضاً من حق أمهات هؤلاء الضحايا اللذين لم تسعفهم أعمارهم بعد على اقتراف أي نوع من الخطايا التي يستحقون عليها الموت بتلك الدناءة واللامسؤولية والاستهتار، أن يخرج أحد ويتكلم باسمهنّ ويطالب بمحاسبة من ارتكب تلك الجريمة أياً يكن.
منظمة الصحة العالمية، تعقيباً على الحادثة التي وصفتها بأنها "أكبر مأساة من نوعها تعيها الذاكرة": قالت في تقرير صدر يوم الجمعة في التاسع عشر من أيلول الجاري، أن باسطاً للعضلات (أتراكيوريوم) استخدم على سبيل الخطأ بدلا من "سائل تحليل مسحوق لقاح الحصبة" ولم تستبعد المنظمة عنصر الفعل المتعمد لذا قررت تعليق حملة التطعيم إلى حين استكمال التحقيق.
كريستيان ليندماير المتحدث باسم منظمة الصحة فسّر ما حصل بالقول: إن الشركة المصنعة للقاح -دون أن يسمها- أرسلت اللقاح في صورة مسحوق ومعه سائل التحليل إلى منشأة في سوريا حيث تم تخزينه ثم إرساله إلى محافظتي دير الزور وإدلب في إطار حملة بدأت يوم الاثنين، لتطعيم عشرات الآلاف من الأطفال. ويبدو أن سائل التحليل قد حُفظ ، مع باسط للعضلات في نفس المبرد (الثلاجة). وتم مزجه في بعض الحالات مع مسحوق اللقاح بدلا من مادة التحليل، وقال إنه يبدو من الواضح جدا أن الخطأ ليس خطأ الشركة المصنعة وإنما خطأ أفراد تعاملوا مع اللقاح، وقال إن منظمة الصحة العالمية ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة ساندتا الحملة لكنهما لم تشاركا فيها بشكل مباشر بسبب انعدام الأمن والوضع "المشحون سياسيا" في المنطقة. وأضاف أن أكثر من 50 ألف طفل تلقوا التطعيم في المحافظتين قبل تعليق الحملة.
مع العلم أن مادة الأتراكيوريوم التي أشار اليها التقرير، تستخدم كمخدر في العمليات الجراحية- وتؤخذ وفقا لوزن الإنسان ولهذا كان كل الأطفال المتوفين دون سن الثانية. 
عشرات حملات التلقيح المجانية رعتها الدولة السورية على مدار السنوات الأربع الماضية، بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية وحتى في أصعب الظروف وأكثر المناطق خطورة، وبالرغم من كل الحملات المضادة التي قادها بعض الجهابذة للترويج بأن تلك اللقاحات فاسدة وتستهدف الأطفال وقد تتسبب بموتهم، إلّا أن تلك اللقاحات كانت تخضع للاختبار للتأكد من سلامتها وصلاحيتها للاستخدام بنسبة مئة في المئة قبل البدء بإعطائها للأطفال، فكيف تسّلم تلك الكميات من اللقاحات إلى أشخاص غير مؤهلين، للمغامرة بتلك الأرواح والتسبب في كارثة مفجعة، وتمرّ الجريمة أمام أعين العالم دون أن يرفّ لأنصار "الحرية" جفن؟
وإذا افترضنا أن الخطأ الذي وقع بشريٌّ فعلاً، ولا علاقة للشركة به، فهل نحن مطالبون بتصديق أن احتمال الخطأ الذي وقع به -عن غير قصد- طاقم نقطة تطعيم معين، قد وقع في أكثر من نقطة في نفس الوقت ؟! هل من المنطقيّ أن تكون تلك المستوعبات لا تحمل أي اسم أو إشارة أو تعليمات استخدام للمادة المعبأة؟ وهنا نجد أنفسنا أمام احتمالين: الأول أن من استلم اللقاحات وأطلق الحملة لم يتفحّص تلك المواد ولم يتكلّف عناء استكشاف محتواها وهذا بحد ذاته جريمة إهمال واستهتار بأرواح البشر.
الاحتمال الثاني أن يكون هؤلاء اللذين يدعون أنهم أطباء لا يعرفون فعلاً ماهي تلك المواد ولا يدركون خطورتها والكارثة هنا أكبر وتتحمل مسؤوليتها منظمة الصحة العالمية نفسها، كونها سلمت تلك الأدوية إلى الأطراف الخطأ، طبعاً كل تلك الاحتمالات والافتراضات لا تنفي أن يكون ما يحصل عبارة عن صفقة مشبوهة، أوخرق جنائي متعمد من قبل أفراد وحتى حكومات.
"ائتلاف الدوحة المعارض" أعلن بعد وقوع الكارثة أنه شكل لجنة تحقيق في القضية وسوف تتم معاقبة المسؤولين عنها، فهل لنا أن نسأل تحت أي سلطة وأي قانون ستتم محاسبة "المخطئين"؟ وهل سيجزى الفاعل من جنس فعله ونرى قادة "الائتلاف" يعلّقون مشانق بعضهم إذا ثبُت تورطهم بجرائم قتل أولئك الأطفال؟ ماذا عن منظمة الصحة العالمية نفسها، أليست الطرف المسؤول بشكل مباشر كونها غامرت بتسليم تلك اللقاحات إلى جهات لم تثبت أهليتها وقدرتها على تحمَل مسؤولية فعل كهذا؟ فلماذا حيدتها جهات الإعلام والأصوات المنددة بما حصل؟
من السهل جداً توقع الإجابة بعد أربع سنوات من الحرب، فلا أسهل من كيل الاتهامات وتوجيه الأصابع وإصدار البيانات، وتشديد لهجة الخطابات وطلب استصدار القوانين والمحاكم من المحافل الدولية، ليذهب ضحايا جريمة اللقاحات من جديد فرق عملة في حسابات هذه الحرب.

Copyrights © al-elam.com

المصدر:   http://www.emediatc.com/?page=show_det&category_id=10&id=12813