الإعلام تايم
يتوقع السوري منك أيها اللبناني خياراً من اثنين: إما أن تكرهه بعنصرية على نمط "مي شدياق" مثلاً، وإما أن تستزلم له بانبطاح ودونيّة على نمط "إلى الأبد".لي مشكلة مع الأسلوبين.ولي مشكلة مع كلمة "سيدي" و "معلمي"واجهتني الكثير من المتاعب في سورية بسبب هذا الأمر ولا تزال. ضعفي في الشام أنها تسكنني، كمن يتخاصم مع أمه أو أخته... لا يلغي الانتماء أي نوع من الفراق. والصلة قدر لا خيار.سأخبركم كيف علمتني سورية بعض الصبر، وعلمتني أن الحق ينتصر.بدءاً بمناف طلاسعام 2010 تعرفت إلى الشام. قبل أن يتغير وجهها، ولحسن الحظ. لمست النبض. نبض "ما قبل العاصفة".لا زلت أذكر مشواري الأول في أيلول مع إيلي وإيلينا. سرنا على الأقدام في ساروجة عبوراً من دمشق التاريخية إلى دمشق السبعينية. مكثت في فنادقها المكتظة حينها، وفي بيوتها المفتوحة للسهرات الاجتماعية.فاجأني الانفتاح وكمية الأجانب وجمعيات المجتمع المدني والآراء السياسية المتعددة. كنت أظن في عقلي اللبناني أن سورية مرصعة بالذهب القديم وغبار باقٍ من أيام الخمسينات مع مدافع بعثية تلفها الأعلام بين الحارات للتأكيد على الوعد الأبد. وظننت أن الأجانب غير مرغوب بهم. وأن الممانعة تسكن كل شيء هنا.ورغم تناقضها وتخبطي في ما رأيت، وقعت في حب دمشق من أول نظرة.مدينة واسعة المدى، ولها جبل صخري يشرف على تاريخها ويعلو فوق البشر ليربطهم بربهم. أحببتها ولمست غرابتها عن نفسها. لم يكن المجتمع طائفي ولكنه كان منقسماً بالسكن. ومنقسماً بالاقتصاد. في وجوه الناس عند شارع الثورة قهر لا تجده في وجوه رواد الداونتاون.فوارق الشوارع لا تنبئ بخير. ومع الفوارق كمية هائلة من الأجانب من كل الصنوف. منهم من يعيش هنا ويتمم أبحاثه. عرب وعجم، وسيارات سعودية ترتاد شوارع الملاهي الرخيصة.انطلاقاً من إرثي الفكري السوري القومي، لم أشعر بنزعة لبنانية مع كمية التاريخ المرير بين الكيانين. لكني تعلمت أن البلاد لا تختصر بصورة دولتها التي ظننا أننا نعرف، وأن الدول في بلداننا تنهشها مشكلاتنا الاجتماعية. سبب التواء المجتمع التواء الافكار، وسبب ترهل الدولة، مهادنتها لموروثات مريضة، كالفساد والتشبيح والطائفية وإلغاء الحراك الثقافي لمصلحة نمو التربية الدينية الملتوية في معظم الأحوال. سلطة وزارة الأوقاف مقابل سلطة الشؤون الاجتماعية. تلك نذير يخبر عن الأزمة الداخلية الأساسية.تساءلت لكن لم يستمر السؤال طويلاً.فمنذ مصر، جهزت نفسها دمشق. وانفجر الوضع. وبدأ رقص الربيع في دمشق.دمشق حيث يكتب للملاحم أن تكون.تعرفت إلى دائرة ثقافية كان من ضمنها العميد المعتزل مناف طلاس. هم كانوا كـ "مريديه". يستمدون نفوذهم منه ويتأثرون بأقواله وبشخصيته.ليلة 11 آذار 2011 تعرفت إليه في سهرة في "أرت هاوس" جمعت وجوهاً ثقافية واجتماعية وسياسية تحت قبة الفن فوق نهر بردى. معرض مفروشات تراثية عملت بها نساء قرويات. وصل وزوجته كأنهما مغناطيس الحفل. وتجمع حوله الناس ليسألوه. لم أردد مثلهم ما رددوه. لم أتملق الجنرال، فاستفزيت ودّه بواقعيتي. كوفية حول عنقي والنساء بالفراشات والشعر المرفوع.في تلك الليلة، ونعيق الناتو يضرب بليبيا، تناقشنا حول كل شيء. حينها، كان العميد عميداً وكان معروفاً بقربه من الرئيس. الكل حوله. ابن وزير الدفاع الأقدم في سورية، مختلف عما توقعته أيضاً. يختلف عن الضباط السوريين. في المظهر كما في طريقة النقاش ومضمونه. غربي الشبق طويل الشعر رماديّه، لا تترك يده السيجار ولا الكأس.يمشي في الشام يومياً بين مختلف الناس، ويمارس رياضة التنس مع رئيس البلاد. يقرأ ويتابع. شخصية ملفتة. هذا في الـ 2011. قبيل اندلاع درعا بيومين.واقعة حماهقربي من الشام نقلني للكتابة عن مخاضها. شاهدتها بعيون الناس والمحيط من الأصدقاء. منهم من انتفض ومنهم من تسلح ومنهم من هرب. كتبت منها وعنها من بين حاراتها بين آذار وتموز عام 2011. كتبت حتى أثرت لنفسي المتاعب. فهناك في تلك البلاد، لم أمارس الهدنة مع أي ممن التقيتهم. انتقدت مستشارة الرئاسة بعدما جالستها وانتقدت أرباب المعارضة بعدما جالستهم أيضاً. تفاعلت من بوصلتي وقناعاتي مع ما يحدث. وما وقرت أحداً.من عيون مناف طلاس، كان الرئيس بشار الأسد حينها "قديساً"، وكانت المشكلة بمحيطه. شعرت أن تلك الكلمات من عميد مرموق، بمثابة ضوء أخضر لممارسة حرية الرأي إلى أقصى الحدود، وهكذا فعلت. انتقدت كل الناس وكل شيء. واستخدمت لغة أظن أن أرباب المعارضة لم يستخدموها في وجه السلطة يوماً. ولكنهم يزاودون علناً، وفي السر يستزلمون. لم أمارس أياً من تلك الاستراتيجيات. كنت نفسي، عمر عشريني من سكان شارع الحمراء في بيروت، يظن واحدنا أن باستطاعته تغيير العالم.صبيحة تموز 2011 حين تلقينا خبر سفر سفراء السم إلى حماه، جن جنوني. السفير الأميركي ونظيره الفرنسي في حماه التي شهدت أكبر التظاهرات السلمية. ماذا يفعلون، نحن في سورية! سفير أميريكا بين المتظاهرين يجند حراكهم ويزودهم بالبث. يومها رصدت آراء المعارضين فوجدت أن سورية تحضن مئات من أجناس فارس سعيد كونيللي. المعارضون كلهم ثمنّوا زيارة السفراء. لا والأنجس من ذلك، أن أحدهم أخبرني عن علاقته الجميلة بالسفير الأميركي الذي كان برأيه أهم زوار دار النشر. لم يخجلوا.جن جنوني.ومع جنوني كان اليوم التالي يوماً أعلنته المعارضة إضراباً في حماه. هاتفت أصدقائي المعارضين فقالوا لي: تركنا المدينة تحت التهديد، أجبرونا على إغلاق المحال. أصرّيت على حماه. وقصدت حماه. ورأيت السواطير تعلن الكابوس القندهاري بالنسخة السورية. في تلك الليلة حين عدت مفجوعة إلى دمشق، قررت مع فريق التحرير في جريدة السفير أننا سننشر مشاهداتي. وحين كتبت مشاهداتي، وحكيت عن الساطور، بوجهيه، حين قلت أن حماه مدينة مجروحة ولكنها تنجر إلى الهاوية، ما احتمل الكلام أحد. حتى الجريدة تراجعت. في يوم واحد، أدبني السوريون. خارج سورية، ممنوع العودة، خارج جريدة السفير. وأتى ذلك مصحوباً بهجمة حازم صاغية في جريدة حياة السعودية، وياسين الحاج صالح من منبر التحرير في السفارة الأميركية. وغيره من المعارضين. اتهمت بكل شيء.نهشوا عرضي وحللوا عقدي القومية التي سببت في "إسلاموفوبيا" فتصورت الورود سواطير. وهم لم يروا ما رأيت، ولا يعرفون شوارع حماه التي سرت فيها.المهم. أصبحت خارج سورية، أي: بالبيولوجيا والفيزيا والكيميا: أكره النظام ويكرهني ولا يريدني في بلاده. قلت للعميد توفيق الذي رحلني: كيف تطردني من بلادي؟ ردّ: هذه بلادي أنا. فسمعت الكلمة بالقوة. وتم الطرد.داعشياتسقطوا رويداً رويداً. هؤلاء المعارضين، والمسؤولين الرقابيين أيضاً. هوت آخر لحظة إيمان بتلك المعارضة حين رأيت العميد العلماني طلاس يلجأ إلى العمرة سبيلاً إلى انشقاقه، ويعلن انشقاقاً لا يشبه شخصيته الماضية. إما أنه كذب قبل أو كذب بعد، وفي الحالتين، فالكذب في مثل أحوالهم، لا يمحوه أي شيء. يسجّله التاريخ للمرء "كاذب". من يقول "بشار الأسد قديس" ومن يكون ابن بيت صنعه حافظ الأسد، لا يحكي من السعودية قائلاً "سورية ما بعد الأسد"... لكن ما عاد شيء يهزّنا اليوم. كل الأقنعة سقطت عن كل الوجوه. ومن مناف إلى كل فرد من المعارضة في كل المناطق التي زرتها، كلهم إما ندموا أو قتلوا. ومن لم يمت، يخاف اليوم على حياته من داعش. هؤلاء من كانوا معارضين على الأرض. أما المعارضة السياسية السورية فساقطة قبل ولادتها. هم إما أزلام غيروا معلّمهم الوطني إلى معلّم خارجي. وإما أزلام خارج من الأساس، لجأوا إلى تطبيق سياسة يوالون رؤوسها. وإما نادمين تائهين. ومنهم من يكره الدولة ويعتبرها المسؤولة عن الوصول إلى هذا الدرك في الصراع. وبكل الأحوال، بعد حدث أكل القلوب في سورية، ما عاد أحد يعتبرهم معارضة للنظام، بل باتوا معارضين للحياة، وبالتالي، سبيلهم ومبتغاهم الموت، وثمة من سيمنعهم من قتل سورية.كمشاهدة للموضوع، وكموثقة إعلامية لما يحدث، ما عاد بإمكاني أن أقف مع جهة تدعمها إسرائيل علناً في المعركة ضد جهة تنخرط فيها مقاومتي اللبنانية. عاد "الشرش" إلى موضعه الراديكالي القومي. لبنانية بالجنوب شمالية بالدم، سورية بالمدى.من حاولنا تفهمهم باعتبارهم الوجه الآخر للبلاد، ينتحرون، وينتحروننا معهم. فلا مجال للمهادنة. اتضحت معالم اللعبة. عون لبنان وسورية الأسدبات معي إرثان: إرث قومي وإرث صحافي "مشكلجي" ممنوع من دخول سورية. لم ولا يستقر تصنيف الناس لي على لائحة. لليوم يشهد الباحث غوغل أنني مصنفة شبيحة لدى المعارضين ومعارضة لدى الشبيحة المتطرفين. وفي خضم التصنيفات، ضاعت سورية، فكيف لا أضيع أنا.حين بات العمل على أرض سورية أكثر خطورة والدراما مقرفة، كاد أن ينتهي أملي، فوجدني القدر بالعماد عون.ما وجدته في الرابية، هو هويتي اللبنانية تماماً. فيه ما يشبهني. الرجل خاض الصراع ضد السوري عن وجه حق وخاض الصلح إلى مدى. هو الذي لا يستزلم ولا يقول "سيدنا" في دمشق. وهو الأحرص عليها من بعض جنرالاتها الذين انشقوا. هو العائد من فرنسا مشرقياً وغيره الهارب إلى فرنسا سعودياً.بعد شهور وموسم كامل من العمل في محطة توالي الجنرال عون، بات تموضعي أوضح في خارطة الصراع. وتطور الصراع حتى زالت مسؤوليات وأتت مسؤوليات وتغيرت طريقة إدارة الإعلام برمّتها في سورية.ورغم ذلك، والحمد لله عدت إلى سورية وحدي وبسيارة تاكسي، على عكس ما يعتقده الآخرون. ولليوم، لا ورقة ولا رخصة ولا تسهيل مرور لدي، عكس ما يعتقده المراقبون. ما يعتمده الآخرون من ولاء ليس مطمحي ولا مدرستي. ولم أعد لأنه تم إغرائي. "أغنى شي المستغني" يقول الرحباني، وأنا أوالي الرحباني.منذ تلك العودة، حتى هذه الساعة. ما زال يستفزني الكثير كل مرة أزور الشام. وما زلت أجد نفسي معارضة لمليارات الأشياء ولمئات الأسماء. أكره الدوائر والمعاملات، وأكره الحواجز، معظمها. وأكره أن أنتظر كل مرة على الحدود ليسمحوا بدخولي، وأكره قذائف الهاون وأكره تجار الأزمة وأكره المتفلسفين المزاودين وأكره المتطرفين وأكره المترفين وأكره الزائفين وأكره وأكره.وأكرهم كلهم كرهي لأمي وأبي حين أعاتبهم، كرهي لنفسي حين تخطئ. كره لا يدعني أمرر يوماً دونهم، ذكراً وعملاً وكتابة. كره الحب هذا مميت، ولجننت لولا أن الأسد رفيقنا. بشار الأسد لنامنذ اللحظة الأولى في دمشق، أعرف أن كل ما فاجأني، كان بصمة الأسد الابن على صورة الأسد الأب التي في عقولنا. العمار الناشئ على الحدود اللبنانية، والمصارف الخاصة، والإعلام الخاص، وشركات الاتصال، وخدمات التكنولوجيا، والنكهة العالمية العولمية من أصلها.كنت أعرف أن هذا الرجل الذي فتح ربيع دمشق للأفكار الناقضة للبعث من أساسه، ليس كالبعث الذي في عقولنا. ويواكب وجه سورية الغد.ورغم كل ما فعل، أجدني على طاولة النوافير استمع للخطاب نفسه الذي سمعته في الروضة منذ ثلاثة أعوام.بعثي، يناقشني بعد كل ما صار، بالعروبة. وبتضحيات الحزب وكيف أنه السبب الأول في صمود سورية... ولا يكتفي، بل يهزأ من فكرة "القومية السورية" ويختم حديثه بالتوجه لي بنبرة "أنت يا لبنانية". هذا الفكر، هو المشكلة. هكذا ختمت مقالي الأول منذ ثلاثة أعوام كما والآن. هؤلاء أسوأ من الحرب. من لم يدخلوا معنا في العام 2014. من لا زال عقلهم في السبعينات.. كانوا يستفزونني.لكنني لم أعد أهتم كثيراً. ما يهمني أن صورة على هاتفه تقول "بشار الأسد"، طالما هو مع الأسد، ثمة من يفكر عنه في عام 2030 ويقرأ الآتي ويتصرف وفقه.ما صمد خلاله الأسد ومن انتخبه بعد كل الأحداث، عوامل أدت إلى تكريسه منتصراً متيناً. ما استلمه وراثة عام 2000 بات اليوم شرفاً تم الدفاع عنه، وبظروف أصعب من الماضي، وبحنكة لا تقل عن من سبقوه.لا يستفزني البعثيون ولا الفوقيون ولا المتطرفون.هم يوالونه. وهو يتنوّر وينيرهم. تحديه الأصعب، أن فريقه لا يشبهه. ولكن فريقه بايعه وانتهينا. بايعوه على ما يرى، وهو ليس مثلهم. الأسد مختلف عن كل من رأيت في سورية. أكثر تواضعاً من أصغرهم هو. وهو رئيس البعث ولكنه رئيس سوري القومية قبل عروبتها.فبينما يرددون آيات العروبة الممتدة من موريتانيا إلى بلاد الجزيرة العربية ويستصعبون لبنانيتي، حصدت أنا، أن أجلس وأستمع لإجابات الرئيس عن كل أسئلتي. وحين وصلت قلت له "تحيا سورية" فردّ السلام بمثله. استغنى عن جدران الماضي في حديثه. فكره يواكب تطوّر الصراع الحضاري والفكري والاقتصادي.وخلال زيارتنا تلك في وفدنا الإعلامي حين سأله الإيرانيون: أين أصبحت العروبة بعد كل ما صار، وسقوط الجامعة العربية مثلاً؟ابتسم السوري القومي من موقع الرئيس داخل الأسد، وقال لهم: معنا رفاق هنا قوميون سوريون، يؤمنون بأن سورية هي الناهضة والمؤثرة عربياً وعالمياً.وحين سألته عن حلب، أحاطني بها من شمالها غرباً وشرقاً. وحين سألته عن الزعتري لانت يمناه أبعد من الأردن صوب العرب، وحين سألته عن القلمون، بانت صيدنايا شفيعة للنصر ورمقني بشيء من فكاهة، "الشباب لديكم يعرفون".لأن بشار الأسد عاد ورغماً عمن منعني ونعتني، استقبلني. قال أن لنا في سورية مدى.ولأنه في مجلس العلماء والشيوخ يحكي لهم كيف أن أرض سورية هي التي أنارت إسلام الجزيرة حضارة وثقافة، قال لي إننا في خندق فكري ووجودي #سوا.وأنه مثل بوصلتنا، مشرقي الهوى.
غدي فرنسيس